الْعِلْمَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا. قِيلَ: وَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأُمُورَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ وَعْدَهُ لَا يُخْلِفُهُ، وَأَنَّ مَا يُورِدُهُ بِعَيْنِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَقٌّ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً: أَيْ بَيِّنًا، أَيْ مَا أَدَّتْهُ إِلَيْهِمْ حَوَاسُّهُمْ، فَكَأَنَّ عُلُومَهُمْ إِنَّمَا هِيَ عُلُومُ الْبَهَائِمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ مَا فِيهِ الظُّهُورُ وَالْعُلُوُّ فِي الدُّنْيَا مِنِ اتَّقَانِ الصِّنَاعَاتِ وَالْمَبَانِي وَمَظَانِّ كَسْبِ الْمَالِ وَالْفِلَاحَاتِ، وَنَحْوِ هَذَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْنَاهُ ذَاهِبًا زَائِلًا، أَيْ يَعْلَمُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا الَّتِي لَا بَقَاءَ لَهَا وَلَا عَاقِبَةَ. وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:
وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا ... وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
أَيْ: زَائِلٌ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ظاهِراً، أَيْ يَعْلَمُونَ مِنْ قِبَلِ الْكَهَنَةِ مِمَّا يَسْتَرِقُهُ الشَّيَاطِينُ.
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: كُلُّ مَا يَعْلَمُ بِأَوَائِلَ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ الظَّاهِرُ، وَمَا يُعْلَمُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فَهُوَ الْبَاطِنُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْلَمُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِ: لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ مِنَ النُّكْتَةِ أَنَّهُ أَبْدَلَهُ مِنْهُ، وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، لِنُعْلِمَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ، وَبَيْنَ وُجُودِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا: يُفِيدُ أَنَّ لِلدُّنْيَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَظَاهِرُهَا مَا يَعْرِفُهُ الْجُهَّالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَخَارِفِهَا وَالتَّنَعُّمِ بِمَلَاذِّهَا، وَبَاطِنُهَا وَحَقِيقَتُهَا أَنَّهَا مَجَازٌ لِلْآخِرَةِ، يُتَزَوَّدُ إِلَيْهَا مِنْهَا بِالطَّاعَةِ والأعمال الصالحة وهم الثانية توكيد لهم الْأُولَى، أَوْ مُبْتَدَأٌ. وَفِي إِظْهَارِهِمْ عَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ، كَانَتْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَفْلَتِهِمُ الَّتِي صَارُوا مُلْتَبَسِينَ بِهَا، لا ينفكون عنها. وفِي أَنْفُسِهِمْ: معمول ليتفكروا، إِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْغَفْلَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَيَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى الْخَالِقِ الْمُخْتَرِعِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَقِبَ هَذَا بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ السَّبَبُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ظَرْفًا للفكرة فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي أَنْفُسِهِمْ توكيدا لقوله: يَتَفَكَّرُوا، كَمَا تَقُولُ: أَبْصِرْ بِعَيْنِكَ وَاسْمَعْ بِأُذُنِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فِي هَذَا الْوَجْهِ كَأَنَّهُ قال: أو لم يُحَدِّثُوا التَّفَكُّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ؟ أَيْ فِي قُلُوبِهِمُ الْفَارِغَةِ مِنَ الْفِكْرِ. وَالْفِكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِحَالِ الْمُتَفَكِّرِينَ، كَقَوْلِكَ:
اعْتَقِدْهُ فِي قَلْبِكَ وَأَضْمِرْهُ فِي نَفْسِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: يَكُونُ صِلَةَ الْمُتَفَكِّرِ، كَقَوْلِكَ: تَفَكَّرَ فِي الأمر وأجال فكره. وما خَلَقَ اللَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ المحذوف، معناه: أو لم يَتَفَكَّرُوا، فَيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ؟ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَيَعْلَمُوا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَالدَّلِيلُ هُوَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا. وَقِيلَ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ: ثُمَّ يَتَفَكَّرُوا