الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا خَلَقَهُ يَعْنِي الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ حِينَ كَلَّمَ مُوسَى انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ يَنْفُونَ صِفَةَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِنَّ مَجَازٌ لَمَّا كَانَتْ تَسِيرُ بِتَسْيِيرِ اللَّهِ حَمَلَتْ مَنْ رَآهَا عَلَى التَّسْبِيحِ فَأُسْنِدَ إِلَيْهَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَسْبِيحِهِنَّ هُوَ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَانْتَصَبَ وَالطَّيْرَ عَطْفًا عَلَى الْجِبالَ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَطْفِ دُخُولُهُ فِي قَيْدِ التَّسْبِيحِ. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ مَعَهُ أَيْ يُسَبِّحْنَ مع الطير. وقرىء وَالطَّيْرَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ مُسَخَّرٌ لِدَلَالَةِ سَخَّرْنَا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُسَبِّحْنَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ توجيه قراءة شادة.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتْ الْجِبالَ عَلَى الطَّيْرَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: نَاطِقٌ إِنْ عَنَى بِهِ أَنَّهُ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ إِنْسَانًا، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ مُصَوِّتٌ أَي لَهُ صَوْتٌ، وَوَصْفُ الطَّيْرِ بِالنُّطْقِ مَجَازٌ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا نُطْقَ لَهَا.
وَقَوْلُهُ وَكُنَّا فاعِلِينَ أَيْ فَاعِلِينَ هَذِهِ الْأَعَاجِيبَ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهِنَّ وَالطَّيْرِ لِمَنْ نَخُصُّهُ بِكَرَامَتِنَا وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللَّبُوسُ الْمَلْبُوسُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ، وَهُوَ الدِّرْعُ هُنَا. وَاللَّبُوسُ مَا يُلْبَسُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ ... سَوَابِغُ بِيضٌ لَا يَخْرِقُهَا النَّبْلُ
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ صَفَائِحَ فَأَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَحَلَقَهَا دَاوُدُ فَجَمَعَتِ الْخِفَّةَ وَالتَّحْصِينَ.
وَقِيلَ: اللَّبُوسُ كُلُّ آلَةِ السِّلَاحِ مِنْ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَبَيْضَةٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَدَاوُدُ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ الَّتِي تُسَمَّى الزَّرَدَ.
قِيلَ: نَزَلَ مَلَكَانِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَرَّا بِدَاوُدَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: نِعْمَ الرَّجُلُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَصَنَعَ مِنْهُ الدُّرُوعَ امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِ بِإِيتَائِهِ حُكْمًا وَعِلْمًا وَتَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَهُ وَتَعْلِيمَ صَنْعَةِ اللَّبُوسِ،
وَفِي ذَلِكَ فَضْلُ هَذِهِ الصَّنْعَةِ إِذْ أَسْنَدَ تَعْلِيمَهَا إِيَّاهُ إِلَيْهِ تَعَالَى.
ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا بِقَوْلِهِ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أَيْ لِيَكُونَ وِقَايَةً لَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسَبَبَ نَجَاةٍ مِنْ عَدُوِّكُمْ. وقرىء لَبُوسٍ بِضَمِّ اللَّامِ وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
لِيُحْصِنَكُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ أَيِ اللَّهُ فَيَكُونُ الْتِفَاتًا إِذْ جَاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ فِي وَعَلَّمْناهُ وَيَدُلُّ