فَمَا اسْطاعُوا أَيْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَنْ يَظْهَرُوهُ أَيْ يَصِلُوا عَلَيْهِ لِبُعْدِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامِّلَاسِهِ، وَلَا أَنْ يَنْقُبُوهُ لِصَلَابَتِهِ وَثَخَانَتِهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى مُجَاوَزَتِهِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ: إِمَّا ارْتِقَاءٍ وَإِمَّا نَقْبٍ وَقَدْ سَلَبَ قُدْرَتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَمَا اسْطاعُوا بِحَذْفِ التَّاءِ تَخْفِيفًا لِقُرْبِهَا مِنَ الطَّاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ بِإِدْغَامِهَا فِي الطَّاءِ وَهُوَ إِدْغَامٌ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ هِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ: فَمَا اصْطَاعُوا بِالْإِبْدَالِ مِنَ السِّينِ صَادًا لِأَجْلِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: فَمَا اسْتَطَاعُوا بِالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ.
قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الرَّدْمِ وَالْقُوَّةِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى السَّدِّ أَيْ هَذَا السَّدُّ نِعْمَةٌ مِنَ الله ورَحْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ هَذَا الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ تَسْوِيَتِهِ. قِيلَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَلَمَّا أَكْمَلَ بِنَاءَ السَّدِّ وَاسْتَوَى وَاسْتَحْكَمَ قالَ: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ هَذِهِ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي بِتَأْنِيثِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَالْوَعْدُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ وَقْتُ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِذَا دَنَا مَجِيءُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشَارَفَ أَنْ يَأْتِيَ جَعَلَ السَّدَّ دَكًّا أَيْ مَدْكُوكًا مُنْبَسِطًا مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ فَقَدِ انْدَكَّ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: دَكَّاءَ بِالْمَدِّ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ دَكًّا مُنَوَّنَةً مَصْدَرُ دَكَكْتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى صَيَّرَهُ فدك مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَيُنْصَبُ فدكا عَلَى الْحَالِ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ السَّدَّ إِذْ ذَاكَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ وَلَا يُخْلَقُ الْمَخْلُوقُ لَكِنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ بَعْضِ هَيْئَاتِهِ إِلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى، وَوَعْدٌ بِمَعْنَى مَوْعُودٍ لَا مَصْدَرٍ. وَالْمَعْنَى فَإِذا جاءَ مَوْعُودُ رَبِّي لَا يُرِيدُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ سَبَقَ وتَرَكْنا هَذَا الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرُ فِي بَعْضَهُمْ عَائِدٌ عَلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَالْجُمْلَةُ الْمَحْذُوفَةُ بَعْدُ إِذِ الْمُعَوِّضِ مِنْهَا التَّنْوِينُ مُقَدَّرَةٌ بِإِذْ جَاءَ الْوَعْدُ وَهُوَ خُرُوجُهُمْ وَانْتِشَارُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ مُقَدَّرَةٌ بِإِذْ حَجَزَ السَّدُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يُفْسِدُونَ عِنْدَهُمْ وَهُمْ مُتَعَجِّبُونَ مِنَ السَّدِّ فَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرَ فِي بَعْضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْخَلْقِ أَيْ يَوْمَ إِذْ جَاءَ وَعْدُ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْجَمْعِ وَعَرْضِ جَهَنَّمَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّفْخِ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الأنعام. وجَمْعاً