قَالَ السَّرَخْسِيُّ: قَدْ اسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِدْلَالَ بِالْآثَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ، وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ حَتَّى يَتَنَوَّعَ أَفْعَالُهُ إلَى مُبَاحٍ وَوَاجِبٍ وَحَرَامٍ. فَالْوَاجِبُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَتَارَةً قَتْلُ النَّفْسِ وَالزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ.
قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَجُمْلَةُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ النَّظَرُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ ثَانِيًا، ثُمَّ الْعِبَادَاتُ. فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ سَاقِطَةٌ عَنْ الصَّبِيِّ دُونَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ إذَا أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ، فَلَا نَقُولُ: يَسْتَحِقُّ بِهَا ثَوَابَ مَنْ يُمْتَحَنُ بِتَنْقِيصِ الْمِلْكِ، وَمَرَاغِمِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَعِدُ الْفَقْرَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ لَا نَظَرًا لِلصَّبِيِّ الْمُؤَدِّي. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْمُوَاسَاةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا لَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَا بَدَنِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ مِنْ مَالِهِ نَفَقَةُ أُخُوَّةِ الدِّينِ.
ثُمَّ لَا يَلْزَمُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِعِلْمِ الشَّرْعِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ حَرَجًا عَظِيمًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الصَّبِيَّ عَامٌّ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ صَحَّ قَطْعًا مُدَّةٌ مَدِيدَةٌ. وَالْجُنُونُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ مَعَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِدَوَامِهِ، وَلَا أَنَّهُ عَامٌّ فَلَيْسَ مُلْتَحِقًا بِالصَّبِيِّ مَعَ الْفَرْقِ الْقَاطِعِ. وَلَكِنْ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ وَمَقَادِيرُهُ مُلْحِقَةٌ بِأَصْلِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُلْحِقُ تَفَاصِيلَهُ بِأَصْلٍ آخَرَ: وَهُوَ الْإِغْمَاءُ، وَنَظَرُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى. وَيَتَّصِلُ بِذَلِكَ أَنَّ عَقْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ يَقْتَضِي تَصْحِيحَ عِبَارَتِهِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: فَسَدَتْ عِبَارَتُهُ فِيمَا صَارَ بِوَلِيٍّ عَلَيْهِ فِيهَا، وَأَمَّا مَا لَمْ يَصِرْ مُوَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا فَفَاسِدٌ فِيمَا يَضُرُّهُ، صَحِيحٌ فِيمَا يَنْفَعُهُ،