لِاحْتِمَالِ تَخَلُّفِ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ الْحُكْمِ، كَمَا يُقَالُ: التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْفَكَّ الْأَعْلَى عِنْدَ الْمَضْغِ. فَإِنَّهُ يُخَالِفُ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ فِي تَحْرِيكِهَا الْأَسْفَلَ. وَاخْتَارَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صَاحِبُ الْحَاصِلِ " وَالْمِنْهَاجِ " وَالْهِنْدِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ مِمَّا يُعْسَرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، فَلَا يُوثَقُ بِهِ إلَّا إذَا تَأَيَّدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ. وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ فَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ الْحُصُولِ يَكُونُ حُجَّةً. وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الظَّنَّ أَمْ لَا؟ لَا فِي أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً أَمْ لَا؟ . وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا لَمَّا عَلِمْنَا اتِّصَافَ أَغْلَبِ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ وَصْفَهُمْ بِالْكُفْرِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ نُشَاهِدُهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ، حَتَّى جَازَ لَنَا اسْتِرْقَاقُ الْكُلِّ وَرَمْيُ السِّهَامِ إلَى جَمِيعِ مَنْ فِي صَفِّهِمْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا لَمَا جَازَ ذَلِكَ. وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَعَادَةِ الْحَيْضِ بِتِسْعِ سِنِينَ، وَفِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَقَالُوا: فَلَوْ وَجَدْنَا الْمَرْأَةَ تَحِيضُ أَوْ تَطْهُرُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ يُتْبَعُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: نَعَمْ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَقَدْ تَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ بِاخْتِلَافِ الْأَهْوِيَةِ وَالْأَعْصَارِ. وَأَصَحُّهَا: لَا عِبْرَةَ بِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ أَعْطَوْا الْبَحْثَ حَقَّهُ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى خِلَافِهِ. وَالثَّالِثُ: إنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَذْهَبَ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا.