بِنَسْخٍ. فَالْقَائِلُ: أَنَا أَفْصِلُ بَيْنَ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَمَا لَمْ يَرْفَعْ، كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَهِيَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ، هَلْ يَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ نَسْخًا، أَوْ لَا، فَلَا يَكُونُ؟ فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَنْسَخُ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ، لَوَقَعَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخٍ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي أَنَّهَا: هَلْ هِيَ رَفْعٌ أَوْ لَا؟ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ فِيمَا لَوْ لَطَّخَ ثَوْبَ الْعَبْدِ بِالْمِدَادِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَجْهَانِ، مَنْشَؤُهُمَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَغْرِيرًا؟ وَالْأَصَحُّ: لَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ ثَوْبَ غَيْرِهِ عَارِيَّةً، فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، لَوَقَعَ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ، أَوْ عَلَى عَدَمِهِ لَوَقَعَ عَلَى عَدَمِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَجْعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ مُغَايِرَةً لِلْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ، بَلْ عَرَضُوا الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَةِ النَّسْخِ لِيُعْتَبَرَ بِهِ، وَذَكَرَ السَّمَّانِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَدُلُّ كَانَتْ نَسْخًا، وَإِلَّا فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَكَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يُنْسَخُ إلَّا بِقَاطِعٍ كَالتَّغْرِيبِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ نَسْخًا نَفَاهُ، لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَسْخًا قَبِلُوهُ إذْ لَا مُعَارَضَةَ. وَقَدْ رَدُّوا بِذَلِكَ أَخْبَارًا صَحِيحَةً لَمَّا اقْتَضَتْ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ. فَرَدُّوا أَحَادِيثَ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَأَيْمَانِ الرَّقَبَةِ، وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ. وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدِيثَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوُضُوءِ، وَالْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِالتَّوَضُّؤِ بِالنَّبِيذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَقَدْ رَجَعَ فِيهِ إلَى الْحَدِيثِ، وَخَالَفَ عَادَتَهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثِ الْقُرْعَةِ