أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ فَبِالْخِطَابِ يُعْلَمُ رَفْعُهُ، كَقَوْلِهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الْآيَةَ. وَكَصُلْحِ الرَّسُولِ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرُدُّ النِّسَاءَ إلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فَهَذَا يُعْلَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ أُزِيلَ، وَيَكُونُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: يَحْتَمِلُ الْمُوَافَقَةَ كَآيَةِ الْوَصَايَا مَعَ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْمَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْمِيرَاثَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ إلَّا أَنْ تَأْتِيَ سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ رَافِعَةٌ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . قَالَ: وَمِثْلُ أَنَّ عُمُومَ آيَةٍ عَلَى سُنَّةٍ، فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ سُنَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ السُّنَّةَ الْأُولَى قَدْ أُزِيلَ حُكْمُهَا بِبَيَانِ السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي الْجَوَازِ هَلْ هُوَ الشَّرْعِيُّ أَوْ الْعَقْلِيُّ؟ فِيهِ مَا سَبَقَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ الْعَقْلِيَّ مَحَلُّ وِفَاقٍ، فَقَالَ بَعْدَمَا سَبَقَ: ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَرِيقِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ فِي الشَّرْعِ مَعَ جَوَازِهِ فِي الْعَقْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُوجَدُ سُنَّةٌ إلَّا وَلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَصْلٌ كَانَتْ فِيهِ بَيَانًا لِمُجْمَلِهِ، فَإِذَا وَرَدَ الْكِتَابُ بِنَسْخِهَا كَانَ نَسْخًا لِمَا فِي الْكِتَابِ مِنْ أَصْلِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
وَالثَّانِي: يُوحِي إلَى رَسُولِهِ بِمَا تَحَقَّقَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، فَإِذَا أَرَادَ نَسْخَ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ أَعْلَمَهُ بِهِ، حَتَّى يَظْهَرَ نَسْخُهُ، ثُمَّ يَرِدُ الْكِتَابُ بِنَسْخِهِ تَأْكِيدًا لِنَسْخِ رَسُولِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ.
وَالثَّالِثُ: نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، فَيَكُونُ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِالنَّسْخِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْآمِرُ بِهِ، وَالرَّسُولُ هُوَ النَّاسِخُ، فَصَارَ ذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ