الْبَحْرِ "، فَقَالَا: إنْ أَبْلَغَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْبَعْضِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَشْبَهَهُمَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارُوا وَبَنَوْا، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " التَّبْصِرَةِ ": إذَا نَزَلَ النَّسْخُ عَلَى الرَّسُولِ ثَبَتَ النَّسْخُ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّهِمْ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. وَمِنْ قَائِلٍ: لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ. ثُمَّ نَصَرَ الشَّيْخُ الْأَوَّلَ، وَأَجَابَ عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ، بِأَنَّ الْقِبْلَةَ يَجُوزُ تَرْكُهَا بِالْأَعْذَارِ، وَلِهَذَا تُتْرَكُ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا فِي نَوَافِلِ السَّفَرِ، فَلِهَذَا لَمْ يُؤَمَّرُوا بِالْإِعَادَةِ.
وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَذْهَبًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ. فَمَنَعَهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزَهُ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْغَافِلِ وَنَحْوِهِ. .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غَدًا، ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَوْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، ثُمَّ يُنْسَخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ يُؤْمَرَ بِالْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، ثُمَّ يُنْسَخَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهَا. فَهَاهُنَا اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إلَى الْجَوَازِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَسُلَيْمٌ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَنَقَلَهُ غَيْرُهُمْ عَنْ مُعْتَزِلَةِ الْبَصْرَةِ، قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَقِّ.