وَقَالَ لِرَسُولِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى الدَّلِيلِ فَقَدْ أَفْهَمَهُ اللَّهُ مُرَادَهُ مِنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَالَ صَاحِبُهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَنَقُولُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ: إنَّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَمَنْ أَوَّلَ شَيْئًا مِنْهَا فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ الْعَرَبِ وَتَفْهَمُهُ فِي مُخَاطَبَاتِهَا لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ نُبَدِّعْهُ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ بَعِيدًا تَوَقَّفْنَا عَنْهُ، اسْتَبْعَدْنَاهُ، وَرَجَعْنَا إلَى الْقَاعِدَةِ فِي الْإِيمَانِ بِمَعْنَاهُ مَعَ التَّنْزِيهِ. قُلْت: وَحَيْثُ سَاعَدَ التَّأْوِيلُ لُغَةَ الْعَرَبِ فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، بَلْ نَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَذَا، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِاللَّفْظِ. نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ، وَمَذْهَبُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ، فَقَدْ يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقْوَى فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى مَزِيدٍ مِنْ الْعِلْمِ وَاتِّسَاعٍ فِيهِ لِأَجْلِ أَبْوَابِ التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ. وَالْخَلَفُ خَاضُوا فِيهِ، وَأَوَّلُوهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَ مَا أَوَّلُوهُ مِمَّا يَلِيقُ أَيْضًا بِهِ هَاهُنَا مِثْلُ طَرِيقَةِ السَّلَفِ أَسْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: طَرِيقَةُ الْخَلَفِ لَمَّا كَانَ فِيهَا دَفْعُ إيهَامِ مَنْ يَتَوَهَّمُ حَمْلًا لَا يَلِيقُ كَانَتْ أَعْلَمَ مِنْ تِلْكَ. وَرَجَّحَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا طَرِيقَةَ الْخَلَفِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّلَفَ خَاضُوا أَيْضًا فِي بَعْضٍ، وَقَالُوا: إنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَلِيقُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَتَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مَسْكُوتٌ عَنْ التَّأْوِيلِ مَعَ الْخَوْضِ فِي بَعْضِهِ. وَنَبْذُ إيهَامِ مَنْ لَا يَرْتَقِي إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ عَنْهُمْ إلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى إثْبَاتِهِ لَهُ تَعَالَى مِنْ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ وَفِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ، فَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ وَأَسْلَمُ.