التَّضَمُّنِ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ الْوُجُودِيِّ؟ الْمَقَامُ الثَّانِي بِالنَّسَبِ إلَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَةً، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ الضِّدِّ، وَهُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا ذَهَبُوا إلَى ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِمْ كَلَامَ النَّفْسِ، وَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ إلَّا الْعِبَارَاتُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، لِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ قَطْعًا، فَقَالُوا: إنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَتَضَمَّنُهُ، وَلَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ إشْعَارًا لُغَوِيًّا أَوْ أَمْرًا لَفْظِيًّا فَقَطْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْأَمْرُ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ: " افْعَلْ " مَعَ إرَادَاتٍ، وَمُرِيدُ الشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِضِدِّهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ.
وَفَرَّقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ الْقَاضِي آخِرًا بِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ: صِيَغُهُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي النَّهْيَ، وَذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ رَاجِعٌ إلَى فَهْمِ مَعْنًى مِنْ لَفْظِ مَنْ يُشْعِرُ بِهِ، وَالْقَاضِي يَقُولُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ لَا إشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: إذَا قَامَ بِالنَّفْسِ الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ فَمِنْ ضَرُورَاتِهِ أَنْ يَقُومَ بِالنَّفْسِ مَعَهُ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا يَقْتَضِي قِيَامَ الْعِلْمِ بِالْمَحَلِّ قِيَامَ الْحَيَاةِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلًا. وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ هُنَا أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ هُوَ، فَإِنْ صِيغَةِ " تَحَرَّكْ " غَيْرُ صِيغَةِ " لَا تَسْكُنْ " قَطْعًا.