وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: أَنَّ دَلَالَةَ صِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى الطَّلَبِ يَكْفِي فِيهَا الْوَضْعُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ مُرِيدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاخْتَارَهُ الْكَعْبِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ وَتَبِعَهُمَا الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ. وَأَبُو الْحُسَيْنِ: لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ إرَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْعُيُونِ " عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقَالُوا: لَا يَنْفَكُّ الْأَمْرُ عَنْ الْإِرَادَةِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ الصِّيغَةَ كَمَا تَرِدُ لِلطَّلَبِ تَرِدُ لِلتَّهْدِيدِ مَعَ خُلُوِّهِ عَنْ الطَّلَبِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُمَيِّزٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا مُمَيِّزَ سِوَى الْإِرَادَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَاصِلٌ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقِيَّةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا كَافٍ فِي التَّمْيِيزِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا إلَّا بِالْإِرَادَةِ فَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ إرَادَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُعْتَبَرُ إرَادَةُ الْأَمْرِ أَوْ إرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ؟ فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ إرَادَةَ الْأَمْرِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إرَادَةَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِرَادَةِ وَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً مَعَ الْأَمْرِ فَيُسْتَدَلُّ بِالْأَمْرِ عَلَى الْإِرَادَةِ، وَلَا يُسْتَدَلُّ بِالْإِرَادَةِ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَدْ حَرَّرَ ابْنُ بَرْهَانٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْأَوْسَطِ ": اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ لِمَصِيرِ الصِّيغَةِ أَمْرًا ثَلَاثَ إرَادَاتٍ: