وأما كونه لم يفعله بمكة، فيُحمَل على أنه إنما أُمِرَ بها أن يُقيمها في دار الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكة إذ ذاك دار حرب. ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة.
وقد رُوي عن ابن سيرين أنّ تجميع الأنصار بالمدينة إنما كان عن رأيهم من غير أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالكلّيّة، وأن ذلك كان قبل فرض الجمعة.
قال عبد اللَّه بن أحمد في "مسائله" -رَحِمَهُ اللَّهُ-: نا أبي، نا إسماعيل -هو ابن عُليّة- نا أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: نُبّئت أن الأنصار قبل قُدوم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليهم المدينة قالوا: لو نظرنا يومًا، فاجتمعنا فيه، فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم اللَّه علينا به، فقالوا: يوم السبت، ثم قالوا: لا نُجامع اليهود في يومهم، قالوا: يوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم، قالوا: فيوم العَرُوبة -قال: وكانوا يُسَمُّون يوم الجمعة يوم العَرُوبة- فاجتمعوا في بيت أبي أُمامة أسعد بن زُرَارة، فذُبحت لهم شاة، فكَفَتهم.
وروى عبد الرزّاق في "مُصَنَّفه" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: جمّع أهلُ المدينة قبل أن يقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سمَّوها الجمعة، فقالت الأنصار: لليهود يومٌ يجتمعون فيه كلّ ستة أيام، وللنصارى أيضًا مثل ذلك، فهلُمّ، فلنجعلْ يومًا نجتمع فيه، ونذكر اللَّه -عزَّ وجلَّ-، ونصلي، ونشكره، أو كما قالوا، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم العروبة، -وكان يُسمُّون يوم الجمعة يوم العَرُوبة- فاجتمعوا إلى أسعد بن زُرَارة، فصلى بهم، وذكّرهم، فسمَّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح أسعد بن زُرارة لهم شاة، فتغدَّوا، وتعَشَّوا من شاة واحدة ليلتهم، فأنزل اللَّه بعد: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الجمعة: 9].
فوقع في كلام الإمام أحمد أن هذه هي الجمعة التي جمّعها مصعب بن عُمير، وهي التي ذكرها كعب بن مالك في حديثه أنهم كانوا أربعين رجلًا.
قال الحافظ ابن رجب: وفي هذا نظر، ويَحْتَمِل أن يكون هذا الاجتماع من الأنصار كان باجتهادهم قبل قدوم مصعب إليهم، ثم لما قدم مصعب عليهم