وعلى الجملة فهذا النحو هو الذي يمكن أن يكون باعثًا لكلّ من المختلفين على تعيين ما عيّنه من الصلوات بحسب ما غَلَب على ظنّه من أرجحيّة ما عيّن.
قال: والذي يظهر لي بعد أن ثبت نسخ التعيين أن القول قول من قال: إن اللَّه تعالى أخفاها في جملة الصلوات؛ ليُحافَظَ على الكلّ، كما فَعَل في ليلة القدر، وساعة الجمعة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (?).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تحقيق القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- حسن إلا أن ترجيحه عدم تعيينها فيه نظر لا يخفى، بل الراجح أنها معيّنة، وأنها صلاة العصر، كما يأتي تحقيقه بعد هذا، فتأمّل.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأقوى شُبْهَة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديثُ البراء الذي تقدّم لمسلم، فإنه يُشعر بأنها أبهمت بعدما عُيِّنَت، كذا قاله القرطبيّ، قال: وصار إلى أنها أُبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، قال: وهو الصحيح؛ لتعارض الأدلة، وعسر الترجيح.
قال الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وفي دعوى أنها أُبهمت، ثم عُيِّنت من حديث البراء نظر؛ بل فيه أنها عُيِّنت، ثم وصفت، ولهذا قال الرجل: فهي إذن العصرُ، ولم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يُشْعِر بالتوقّف؛ لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث عليّ. ومن حجتهم أيضًا حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- المذكور في الباب، ففيه: "وصلاة العصر" بالعطف، ورَوَى مالكٌ عن عَمْرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفًا لحفصة، فقالت: إذا بلغتَ هذه الآية، فآذِنِّي، فَأمْلَتْ عليَّ: "حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر"، وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو بن رافع.
ورَوَى ابن المنذر من طريق عبيد اللَّه بن رافع: "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفًا" فذكر مثل حديث عمرو بن رافع سواءً، ومن طريق سالم بن عبد اللَّه بن عمر أن حفصة أمرت إنسانًا أن يكتب لها مصحفًا نحوه، ومن طريق نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفًا، فذكر مثله، وزاد: "كما سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولها"، قال نافع: فقرأت ذلك المصحف، فوجدت فيه الواو.