له، وقد قال المسلمون، وكل ذي عقل: إنه لا يُعْقَل كائن لا في مكان منا، وما ليس في مكان فهو عَدم، وقد صحّ في المعقول، وثبت بالواضح من الدليل، أنه كان في الأزل لا في مكان، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه، أو يَجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه؟ تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، الذي لا يَبْلُغ مَن وصفه إلا إلى ما وَصَفَ به نفسه، أو وصفه به نبيّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو اجتمعت عليه الأمة الحنيفية عنه.

[فإن قال قائل منهم]: إنا وصفنا ربنا أنه كان لا في مكان، ثم خلق الأماكن فصار في مكان، وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال؛ إذ زال عن صفته في الأزل، وصار في مكان دون مكان.

[قيل له]: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان، وانتقل إلى صفة هي الكون في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، وهذا لا ينفك منه؛ لأنه إن زعم أنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن، فقد أوجب الأماكن والأشياء موجودة معه في أزله، وهذا فاسد.

[فإن قيل]: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟ .

[قيل له]: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه؛ لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانًا، وكذلك نَقْلُهُ لا يوجب مكانًا، وليس في ذلك كالخلق؛ لأن كَوْنَ ما كَوَّنه يوجب مكانًا من الخلق، ونقلته توجب مكانًا، ويصير منتقلًا من مكان إلى مكان، واللَّه -عزَّ وجلَّ- ليس كذلك؛ لأنه في الأزل غير كائن في مكان، وكذلك نقلته لا توجب مكانًا، وهذا ما لا تقدر العقول على دفعه، ولكنا نقول استوى مِن لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدًا ألا ترى أنا نقول: له العرش، ولا نقول: له سرير، ومعناهما واحد، ونقول: هو الحكيم، ولا نقول: هو العاقل، ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول: صديق إبراهيم، وإن كان المعنى في ذلك كله واحدًا، لا نُسَمِّيه ولا نَصِفُهُ، ولا نُطلِق عليه إلا ما سَمَّى به نفسه على ما تقدم ذكرنا له من وصفه لنفسه، لا شريك له، ولا نَدْفَع ما وَصَف به نفسه؛ لأنه دفع للقرآن، وقد قال اللَّه -عزَّ وجلَّ-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، وليس مجيئه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015