(عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ) تقدّم سبب تلقيبه به آنفًا (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ) -رضي اللَّه عنهما- أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-) كان ذلك في غزوة تبوك، وهي آخر غزوات النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.
أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يَحْرُسونه، حتى إذا صَلَّى، وانصرف إليهم، فقال لهم: "لقد أُعطيت الليلة خمسًا، ما أعطيهنّ أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامّةً، وكان مَن قبلي إنما يُرْسَل إلى قومه، ونُصِرتُ على العدوّ بالرُّعْب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لَمُلئ منه رُعْبًا، وأُحِلّت لي الغنالْم، آكُلُها، وكان مَن قبلي يُعْظِمُون أكلها، كانوا يُحَرِّقونها، وجُعلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان مَن قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيَعِهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سَلْ، فإن كل نبي قد سأل، فاخَّرت مسَالتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن شَهِدَ أن لا إله إلا اللَّه". انتهى.
قال الحافظ ابن رجب بعد ذكر هذا الحديث: قوله: "أُعطيت الليلة خمسًا" لم يُرد أنه لم يُعطها قبل تلك الليلة، فإن عامّتها كان موجودًا قبل ذلك، كنصره بالرعب، وتيمّمه بالتراب، فإن التيمّم شُرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال، ولعلّه أراد أنه أُعلم بأن هذه الخمس خصال اختصّ بها عن سائر الأنبياء في تلك الليلة. انتهى (?).
("أُعْطِيتُ) ببناء الفعل للمفعول (خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ) بالبناء للمفعول أيضًا (أحَدٌ قَبْلِي) زاد في رواية البخاريّ في "الصلاة": "من الأنبياء"، يعني أن اللَّه -عزَّ وجلَّ- أعطاه هذه الخصال، وخصّه بهنّ، ولم يُشاركه فيهنّ أحد من الأنبياء الذين قبله، وفي حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "لا أقولهنّ فخرًا"، يعني أنه إنما ذكر هذا اعترافًا بالنعمة، وأداءً لشكرها، وامتثالًا لأمره تعالى بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، لا افتخارًا، وتطاوُلًا على غيره من الخلق.