وحكى عياض عن بعض مشايخهم أن الحديث المذكور يدُلّ على نسخ أمره المتقدِّم لهم بالجلوس لَمّا صلَّوا خلفه قيامًا.
وتُعُقِّب بأن ذلك يَحتاج لو صحّ إلى تاريخ، وهو لا يصحّ، لكنه زَعَم أنه تَقَوَّى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحدٌ منهم، قال: والنسخ لا يثبت بعد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث المذكور.
وتُعُقِّب بأنّ عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع، ثم لو سُلِّم لا يلزم منه عدم الجواز؛ لاحتمال أن يكونوا اكتَفَوا باستخلاف القادر على القيام؛ للاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنسبة إلى صلاة القائم بمثله، وهذا كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود.
واحتَجَّ أيضًا بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما صلّى بهم قاعدًا؛ لأنه لا يصح التقدم بين يديه؛ لنهي اللَّه عن ذلك، ولأن الأئمة شُفَعاء، ولا يكون أحدٌ شافعًا له.
وتُعُقّب بصلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- خلف عبد الرحمن بن عوف، وهو ثابت بلا خلاف، وصَحَّ أيضًا أنه صلّى خلف أبي بكر.
والعجب أن عمدة مالك في منع إمامة القاعد قولُ ربيعة: إن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في تلك الصلاة مأمومًا خلف أبي بكر، وإنكاره أن يكون -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّ في مرض موته قاعدًا، كما حكاه عنه الشافعيّ في "الأم"، فكيف يدَّعي أصحابه عدم تصوير أنه صلّى مأمومًا، وكأن حديث إمامته المذكور لَمّا كان في غاية الصحة، ولم يمكنهم ردُّهُ سلكوا في الانتصار وجوهًا مختلفة.
وقد تبيّن بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف، أن المراد بمنع التقدم بين يديه في غير الإمامة، وأن المراد بكون الأئمة شفعاء، أي في حق مَن يَحتاج إلى الشفاعة.
ثم لو سُلِّم أنه لا يجوز أن يؤمه أحدٌ لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أمَّ قاعدًا جماعة من الصحابة بعده -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم أُسيد بن حُضير، وجابر، وقَيس بن قَهْد، وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحةٌ، أخرجها عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم.
بل ادَّعى ابنُ حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد.
وقال أبو بكر ابن العربيّ: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-