استحييت منه، بياءين، وهي لغة الحجاز، وبها جاء القرآن، واستحيتُ بياء واحدة، وهي لغة تميم، والاستحياء: هو الانقباض، والانزواء.

وإنما قَدَّمت هذا القول تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يُستَحيَى منه، والمراد بالحياء هنا معناه اللغويّ؛ إذ الحياء الشرعى خير كلُّهُ، وقد تقدم في كتاب الإيمان: أن الحياء لغةً تغيُّرٌ، وانكسار، وهو مستحيل في حق الله تعالى، فيُحْمَل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحقّ، أو لا يَمنَع من ذكر الحق، وقد يقال: إنما يُحتاج إلى التأويل في الإثبات، ولا يشترط في النفي أن يكون ممكنًا، لكن لَمّا كان المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحقّ عاد إلى جانب الإثبات، فاحتيج إلى تأويله، قاله ابن دقيق العيد (?).

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم غير مرّة أنه لا حاجة إلى هذا التأويل؛ لأن الحياء صفة من صفات الله - سبحانه وتعالى -، ثابتة له، كما أثبتتها النصوص الصحيحة الصريحة، ولا يلزم من إثباتها له أن تفسّر بمعنى الحياء الذي يُفسّر به الحياء المنسوب إلى الخلق، وإنما هي صفة لائقة بجلاله - سبحانه وتعالى -، لا تعلم كيفيّتها، وإنما احتاج ابن دقيق العيد وغيره إلى نفيها عن الله تعالى؛ لأنهم حملوها على الحياء المضاف إلى الخلق.

وبالجملة فالحياء صفة ثابتة لله تعالى، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقال النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وإنما قالت هذا اعتذارًا بين يدي سؤالها عما دعت الحاجة إليه، مما تَستَحِي النساء في العادة من السؤال عنه، وذكرِهِ بحضرة الرجال، ففيه أنه ينبغي من عَرَضت له مسألة أن يسأل عنها، ولا يَمتنع من السؤال حياءً من ذكرها، فإن ذلك ليس بحياء حقيقيّ؛ لأن الحياء خيرٌ كلُّه، والحياء لا يأتي إلا بخير، والإمساك عن السؤال في هذه الحال ليس بخير، بل هو شَرّ، فكيف يكون حياءً؟ وقد تقدم إيضاح هذه المسألة في أوائل "كتاب الإيمان"، وقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: "نِعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياءُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015