وإذا ذكر اسم الإيمان مجرّدًا دخل فيه الإسلام، والأعمال الصالحة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشعب: "الإيمان بضع وسبعون شعبةً، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وكذلك سائر الأحاديث التي يُجعل فيها أعمال البرّ من الإيمان.
ثم إن نَفَى الإيمان عند عدمها دلّ على أنها واجبة، وإن ذَكر فضل إيمان صاحبها، ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبّة، فإن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا ينفي اسم مُسمّى أمر، أمر الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله: "لا صلاة إلا بأمّ القرآن"، وقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، ونحو ذلك.
فأما إذا كان الفعل مستحبًّا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحبّ، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان، والصلاة، والزكاة، والحجّ؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البرّ مثل ما فعلها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بل ولا أبو بكر، ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحبّ يجوز نفيها لجاز أن تُنْفَى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل. فمن قال: إن المنفيّ هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يُذمّ تاركه، ويتعرّض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحبّ، فهذا لم يقع قط في كلام الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز أن يقع، فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئًا، لم يجز أن يقال: ما فعله، لا حقيقة، ولا مجازًا، فإذا قال للأعرابيّ المسيء في صلاته: "ارجع، فصلّ، فإنك لم تصلّ"، وقال لمن صلّى خلف الصفّ، وقد أمره بالإعادة: "لا صلاة لفذّ خلف الصفّ"، كان لترك واجب، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، يبيّن أن الجهاد واجب، وترك الارتياب واجب، والجهاد، وإن كان فرضًا على الكفاية، فجميع المؤمنين يخاطبون به ابتداء، فعليهم كلّهم اعتقاد وجوبه، والعزم على فعله، إذا تعيّن، ولهذا قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من مات، ولم يغز، ولم يُحدّث نفسه بغزو، مات على شعبة نفاق"، رواه مسلم، فأخبر أنه من لم يهمّ به كان على شعبة نفاق.