كَانَ حَيًّا، كَانَ) هذا السكك (عَيْبًا فِيهِ)؛ أي: في هذا الجدي (لأنّهُ أَسَكُّ)؛
أي: مقطوع الأذنين، أو صغيرهما، وهذا عيب، (فَكَيْفَ) إذا ضمّ فيه عيب
آخر (وَهُوَ) أنه (مَيِّتٌ؟ )؛ أي: فيكون أبعد شيء من رغبتنا، (فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-:
("فَوَاللهِ لَ لدُّنْيَا) بفتح اللام، وهي الرابطة لجواب القَسَم، (أَهْوَنُ)؛ أي: أحقر
(عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا)؛ أي: من حقارة هذا الجدي الأسك الميت (عَلَيْكُمْ")
معاشر الحاضرين.
قال القرطبيّ رحمه الله: الدُّنيا: وزنها فُعْلى، وألفها للتأنيث، وهي من الدنوّ
بمعنى القُرْب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور} [آل عمران: 185] غير أنه قد كَثُر استعمالها استعمال
الأسماء، فاستُغني عن موصوفها، كما جاء في هذا الحديث. والمراد: الدار
الدنيا، أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى، أو الحياة الأخرى، ومعنى
هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لذاتها، بل جعلها طريقًا
موصلًا إلى ما هو المقصود لذاته، وأنه لم يجعلها دار إقامة، ولا جزاء، وإنَّما
جعلها دار رِحلة، وبلاء، وأنه مَلَكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها
الأنبياء، والأولياء، وقد أوضح النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى، فقال: "لو كانت الدنيا
تعدل عنا- الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء" (?)، وحسبك بها
هوانًا أن الله تعالى قد صغّرها، وحقّرها، وذمَّها، وأبغضها، وأبغض أهلها،
ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزوّد منها، والتأهب للارتحال عنها،
ويكفيك من ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذيّ عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الدنيا
ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلّم" (?)، ولا
يُفهم من هذا الحديث إباحة لعن الدنيا، وسبّها مطلقًا، لِمَا رويناه من حديث
أبي موسي الأشعريّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا الدنيا، فنِعْمت
مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشرّ، إنه إذا قال العبد: