في قوله: (مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ) مصدرية؛ أي: مِثل جَعْل أحدكم (إِصْبَعَهُ) فيها عشر
لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، فهذه تسعة، والعاشرة أُصبُوع، بوزن
عُصفور، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة، وقوله: (هَذِهِ) إشارة الإصبع
التي أشار بها، كما بيّنه بقوله: (وَأَشَارَ يَحْيَى)؛ يعني: القطّان (بِالسَّبَّابَةِ)؛
يعني: أنه فسر قوله: "هذه " بأنها السبّابة، وقوله: (فِي الْيَمِّ) متعلّق بـ "يجعل"؛
أي: في البحر المفسَّر بالماء الكثير، (فَلْيَنْظُرْ)؛ أي: فليتأمل، وليفكّر أحدكم
(بِمَ يرجعُ")؛ أي: بأيّ شيء يرجع إصبع أحدكم من ذلك الماء.
قال القاري -رحمه الله-: [واعلم]: أن قوله: "يرجع" ضُبط بالتذكير في أكثر
الأصول، وفي بعض النسخ بالتأنيث، وهو الأظهر؛ لأن ضميره يرجع إلى
الإصبع، وهو مؤنث، وقد تُذكّر على ما في "القاموس" (?)، والمعنى: فليتفكر
بأيّ مقدار من الْبِلّة الملتصقة من اليمّ ترجع إصبعه إلى صاحبه، اللَّهُمَّ إلا أن
يقال: المعنى: بم يرجع الحال، وينتقل المآل.
وحاصله: أن مِنَحَ الدنيا، ومِحَنَها في كسب الجاه والمال من الأمور
الفانية السريعة الزوال، فلا ينبغي لأحد أن يفرح، ويغترّ بسعتها، ولا يجزع،
ويشكو من ضيقها، بل يقول في الحالتين: "لا عيش إلا عيش الآخرة"، فإنه -صلى الله عليه وسلم-
قاله مرة في يوم الأحزاب، وأخرى في حجة الوداع، وجمعية الأصحاب، ثم
ليعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الدنيا ساعة، فيصرفها في الطاعة (?).
وقال الطيبيّ -رحمه الله-: قوله: "فلينظر بم يرجع" وُضع موضع قوله: فلا يرجع
بشيء، كأنه -صلى الله عليه وسلم- يستنحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع، ثم يأمره بالتأمل
والتفكر، هل يرجع بشيء أم لا؟ وهذا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فأين
المناسبة بين المتناهي، وغير المتناهي؟ انتهى (?).
وقوله: (وَفي حدِيثِهِمْ جَمِيعًا)؛ يعني: حديث هؤلاء الستّة الذين رووا عن
إسماعيل بن أبي خالد، وهم: عبد الله بن إدريس، وعبد الله بن نُمير،
ومحمد بن بشر، وموسى بن أعين، وأبو أسامة، ويحيى القطّان، إلا أنه استثناه