وقيل: إن الاستغفار يتنزّل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربّه حاجة،
فسؤاله إياه يتنزّل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب
ليس عبادة، فإذا كان كذلك، والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلّق العلم بعدم
نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها، بل لتعظيم المدعوّ، فإذا
تعذّرت المغفرة عُوّض الداعي عنها بما يليق به، من الثواب، أو دفع السوء،
كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعوّ لهم تخفيف، كما في قصّة
أبي طالب، هذا معنى ما قاله ابن المنيّر.
قال الحافظ: وفيه نظر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل
المغفرة له شرعًا، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 113].
ووقع في أصل القصّة إشكال آخر، وذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- أطلق أنه خُيّر بين
الاستغفار لهم، وعدمه بقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:
80]، وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال: "سأزيد عليها"، مع أنه سبق قبل
ذلك بمدّة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، فإن هذه الآية نزلت في قصّة أبي
طالب، حين قال -صلى الله عليه وسلم-: "لأستغفرنّ لك، ما لم أُنْهَ عنك"، فنزلت، وكانت وفاة
أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا، وقصة عبد الله بن أُبيّ هذه في السنة
التاسعة من الهجرة، كما تقدّم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع
الجزم بكفرهم في نفس الآية؟ .
قال الحافظ: وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا، حاصله أن
المنهي عنه استغفارٌ تُرجَى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم، كما
في قصّة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أُبيّ، فإنه استغفار
لقصد تطييب قلوب من بقي منهم.
قال الحافظ: وهذا الجواب ليس بمرضي عندي، ونحوه قول
الزمخشريّ، فإنه قال:
فإن قلت: كيف خفي على أفصح الخلق، وأَخبَرِهم بأساليب الكلام،
وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار، ولو كثر لا يُجدي، ولا سيما