على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". انتهى.
قال المباركفوريّ - رحمه الله -: قد أشكل على كثير من الناس معنى قوله:
"فليعمل ما شاء" كما أشكل عليهم معنى قوله المذكور في حديث حاطب، فإن
ظاهره إباحة كل الأعمال لأهل بدر، وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع.
وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
منها: ما قال ابن القيم - رحمه الله - في "الفوائد" ص 16: إن هذا خطاب لقوم
قد عَلِمَ الله - سبحانه وتعالى - أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإِسلام، وأنهم قد
يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرّين
عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح، واستغفار، وحسنات، تمحو أثر ذلك، ويكون
تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وإنهم مغفور لهم، ولا
يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن
يعطلوا الفرائض؛ وثوقًا بالمغفرة، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على
القيام بالأوامر لَمَا احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة، ولا صيام، ولا حجّ، ولا
زكاة، ولا جهاد، وهذا محال، ومِن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب،
فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث
الآخر: "أذنب عبد ذنبًا، فقال: أيْ رب أذنبت ذنبًا، فاغفره لي، فغفره
له. . ." الحديث، وفيه: "قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء"، فليس في هذا
إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات، والجرائم، وإنما يدلّ على أنَّه يغفر
له ما دام كذلك، إذا أذنب وتاب، واختصاص هذا العبد بهذا؛ لأنه قد عَلِم أنَّه
لا يصرّ على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب، وهذا حكمٌ يعمّ كل من كانت حاله
حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك، كما قُطع به لأهل بدر، وكذلك كل
من بَشَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، أو أخبره بأنّه مغفور له لم يَفْهَم منه هو ولا
غيره من الصحابة - رضي الله عنهم - إطلاق الذنوب والمعاصي له، ومسامحته بترك
الواجبات، بل كان هؤلاء أشدّ اجتهادًا، وحذرًا، وخوفًا بعد البشارة منهم
قبلها؛ كالعشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصدّيق شديد الحذر والمخافة،
وكذلك عمر، فإنهم عَلِموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها، والاستمرار
عليها إلى الموت، ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يَفْهم أحد منهم من ذلك