وهو أعلم به؛ للمباهاة، وأن يكون استفهامًا للتقرير، والتعجيب، وإنما عدل عن
الخطاب إلى الغيبة شكرًا لصنيعه إلى غيره، وإحمادًا له على فعله. انتهى (?).
(ثُمَّ عَادَ، فَأَذْنَبَ) وفي رواية البخاريّ: "ثمَّ مكث ما شاء الله، ثمَّ أذنب
ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا"، (فَقَالَ: أَيْ) بفتح، فسكون: حرف نداء
للقريب، وفيها خلاف بين النحاة، أشرت إليه في "التحفة المرضيّة"، بقولي:
"أَيْ" لِنَدَا الْأَوْسَطِ أَوْ ذِي الْقُرْبِ ... أَوْ ذِي الْبُعْدِ وَالتَّفْسِيرَ أَيْضًا قَدْ رَأَوْا
(رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا
يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ، فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي،
فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ
بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ)؛ أي: من الذنب المعقَّب بالتوبة الصحيحة، ففيه أن
التوبة الصحيحة لا يضرّ فيها العود إلى الذنب ثانيًا، بل مضت على صحتها،
ويتوب من المعصية الثانية. (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ")؛ أي: ما دُمت تُذنب، ثمَّ
تتوب، قال المنذريّ - رحمه الله -: قوله: "فليعمل ما شاء" معناه: إذا كان هذا دأبه،
يذنب الذنب، فيتوب منه، ويستغفر، فليفعل ما شاء؛ لأنه كلما أذنب كانت
توبته، واستغفاره كفارة لذنبه، فلا يضرّه، لا أنَّه يذنب الذنب، فيستغفر منه
بلسانه، من غير إقلاع، ثمَّ يعاوده، فإن هذه توبة الكذابين، ويدل له قوله: "ثمَّ
أصاب ذنبًا آخر". انتهى.
وقال النوويّ - رحمه الله -: معناه: ما دُمت تذنب، ثمَّ تتوب غفرت لك.
وقال الطيبيّ - رحمه الله -: أي: اعمل ما شئت ما دُمت تذنب، ثمَّ تتوب، فإني
أغفر لك، قال: وهذه العبارة تُستعمل تارة في معرض السخطة والنكير، وتارةً
في صورة التلطّف والحفاوة، وليس المراد منه في كلتا الصورتين حثّ على
الفعل، أو الترخّص فيه، وعلى السخطة والنكير وَرَدَ قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، وعلى الحفاوة والتلطّف وَرَدَ هذا
الحديث، وذلك مثل قولك لمن تودّه، وترى منه الجفاء: اصنع ما شئت،
فلست بتارك لك، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حقّ حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -: "لعلّ الله اطّلع