بِهَا)، وقوله: (قَائِمَةً عِنْدَهُ) حال من الضمير المجرور؛ أي: إذا الرجل حاضر
بتلك الراحلة حال كونها قائمةً عنده من غير تردد في طلبها، وعليها زادُه:
طعامه وشرابه، (فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا) بكسر الخاء المعجمة؛ أي: زمامها فرحًا بها
فرحًا لا نهاية له، (ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ
مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ") كرره لبيان عذره، وسبب صدوره، فإن شدّة الفرح والحزن
ربما يقتل صاحبه، ويُدهش عقله، حتى يمنع صاحبه من إدراك البديهيّات (?).
والمعنى: أنه أراد أن يحمد الله تعالى بما أنعم عليه من ردّ راحلته إليه،
وقصد أن يقول: اللَّهُمَّ أنت ربي، وأنا عبدك، فسبق لسانه عن نهج الصواب،
وأخطأ، وقال: اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربك، من غاية الفرح، فكان أن فرح
هذا الرجل على غاية الشدّة، فكذلك رضاء الله تعالى توبة عبده.
قال القاضي عياض رحمه الله: فيه أن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال
دهشته، وذهوله لا يؤاخَذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علميّ، وفائدة
شرعيّة، لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدلّ على ذلك حكاية النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
ذلك، ولو كان منكَرًا ما حكاه. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: في الكلام على فوائد حديث النيّة: فيه حجة
على بعض المالكية من أنهم لا يُدينون من سَبَق لسانه إلى كلمة الكفر إذا ادّعى
ذلك، وخالفهم الجمهور، ويدلّ لذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث
أنس بن مالك في قصة الرجل الذي ضلت راحلته، ثم وجدها، فقال من شدّة
الفرح: اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربك، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أخطأ من شدة الفرح".
قال: والذي جرت به عادة الحكام الْحُذّاق منهم اعتبار حال الواقع منه
ذلك، فان تكرر منه ذلك، وعُرف منه وقوعه في المخالفات، وقلّة المبالاة بأمر
الدِّين، لم يلتفتوا إلى دعواه، ومن وقع منه ذلك فلتة، وعُرف بالصيانة والتحفظ
قَبِلوا قوله في ذلك، وهو توسط حسنٌ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التوسّط الذي حسّنه وليّ الدين رحمه الله هو
الذي أراه؛ والله تعالى أعلم.