اخْضَعْ وَذِلَّ لِمَنْ تُحِبُّ فَلَيْسَ فِي ... حُكْمِ الْهَوَى أَنْفٌ يُشَالُ وَيُعْقَدُ
وقال آخر [من الطويل]:
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ ... عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
المرتبة الرابعة: ذلّ المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع
كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم، إذ يذل له خوفًا وخشية ومحبة وإنابة
وإطاعة وفقرًا وفاقة، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى
أجلّ من أن يسمى بالفقر بل هو في العبودية وسرّها وحصوله أنفع شيء للعبد،
وأحب شيء إلى الله فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة،
وأسباب العبودية والطاعة، وأسباب المحبة والإنابة، وأسباب المعصية
والمخالفة؛ إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والغاية من تقدير عدم هذا
الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من
مفسدة وُجُوده، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما
وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب، فإن كنت من
أهل المعرفة فادخل وإلا فردّ الباب وارجع بسلام.
ومنها: إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبَّباتها
فاسم السميع البصير يقتضي مسموعًا ومبصرًا، واسم الرزاق يقتضي مرزوقًا،
واسم الرحيم يقتضي مرحومًا، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم
يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم، ويستحيل تعطيل هذه
الأسماء والصفات؛ إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال
حكمة، وإحسان وَجُود فلا بد من ظهور آثارها في العالم، وقد أشار إلى هذا
أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: "لو لم تُذنبوا لذهب الله
بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم"، وأنت إذا فرضت
الحيوان بجملته معدومًا فلمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية
والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا
فرضت الفاقات كلها قد سُدَّت، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع
والابتهال والإجابة، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام؟
فسبحان من تعرَّف إلى خَلْقه بجميع أنواع التعرفات ودلّهم عليه بأنواع الدلالات