حَكَم على العبد وقضى عليه بأن قلّب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال
بين العبد وقلبه، وجعله مريدًا شائيًا لِمَا شاء منه العزيز الحكيم. وهذا من
كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك
وظاهرك، وأما جعلك مريدًا شائيًا لِمَا شاءه منك، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو
العزة الباهرة، فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكّن شهوده منه كان
الاشتغال به عن ذل المعصية أَولى به وأنفع له؛ لأنه يصير مع الله لا مع نفسه،
ومن معرفة عزته في قضائه: أن يعرف أنه مدبَّر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة
له، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز
حميد، ومن شهود عزته أيضًا في قضائه: أن يشهد أن الكمال والحمد والغنى
التام والعزة كلها لله، وأن العبد نفسه أَولى بالتقصير والذم والعيب والظلم
والحاجة، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله
وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد
العزة.
ومنها: أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية، فإذا شهد
جريان الحكم عليه وجعله فاعلًا لِمَا هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته
واختياره، فكأنه مختار غير مختار، مريد غير مريد، شاءٍ غير شاء، فهذا يشهد
عزة الله وعظمته وكمال قدرته.
ومنها: أن يعرف بِرّه سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع
كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحَذَروه، وهذا من كمال بره ومن
أسمائه البر، وهذا البر من سيده به نَفْع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه،
فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر
الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل
معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد
الأسنى، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا بل في هذه الحال. فماذا فَقَدها
فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية، ولكل وقت ومقام عبودية تليق به.
ومنها: شهود حِلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله
بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه