وأخرج الطبرانيّ في "الدعاء" بسند رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة بقية،
عن عائشة -رضي الله عنها-، مرفوعًا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء".
وقال الشيخ تقيّ الدين السبكيّ -رحمه الله-: الأَولى حمل الدعاء في الآية على
ظاهره، وأما قوله بعد ذلك {عَنْ عِبَادَتِي} فوجْه الربط: أن الدعاء أخص من
العبادة، فمن استكبر عن العبادة، استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما
هو في حقّ من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كَفَر، وأما من تَرَكه
لمقصد من المقاصد، فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة
الدعاء، والاستكثار منه أرجح من الترك؛ لكثرة الأدلة الواردة في الحثّ عليه.
قال الحافظ ة وقد دل قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:
65]، أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وقال الطيبيّ -رحمه الله-: معنى حديث
النعمان -رضي الله عنه- أن تُحْمَل العبادة على المعنى اللغويّ؛ إذ الدعاء هو إظهار غاية
التذلل، والافتقار إلى الله تعالى، والاستكانة له، وما شُرعت العبادات إلا
للخضوع للباري، وإظهار الافتقار إليه، ولهذا خَتم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبَّر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار،
ووَضَع عبادتي موضع دعائي، وجَعَل جزاء ذلك الاستكبار الصغار، والهوان.
وحَكَى القشيريّ في "الرسالة" الخلاف في المسألة، فقال: اختُلف أي
الأمرين أَولى: الدعاء، أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي
ترجيحه؛ لكثرةِ الأدلة؛ ولمَا فيه من إظهار الخضوع، والافتقار، وقيل:
السكوت والرضا أَولى؛ لِمَا في التسليم من الفضل.
قال الحافظ: وشُبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قُدّر له، فدعاؤه إن كان
على وفق المقدور، فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة.
والجواب عن الأول: أن الدعاء من جملة العبادة؛ لِمَا فيه من الخضوع
والافتقار، وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدَّر الله تعالى، كان
إذعانًا، لا معاندةً، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن
يكون المدعوّ به موقوفًا على الدعاء؛ لأن الله خالق الأسباب ومسبَّباتها.
قال: وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيًا بلسانه، راضيًا بقلبه، قال:
والأَولى أن يقال: إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء، فالدعاء أفضل، وبالعكس.