عدّد من نعمه، فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8]، ولم يكن

غِناه - صلى الله عليه وسلم - أكثر من إيجاد قوت سنة لنفسه وعياله، وكان الغنى كله في قلبه؛

ثقةً بربه، وسكونًا إلى أن الرزق مقسوم يأتيه منه ما قُدِّر له، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم -

لعبد الله بن مسعود: "يا عبد الله لا يكثر همّك، ما يقدَّر يكن، وما يقدَّر

يأتيك"، وقال: "إن روح القدس نَفَث في رُوعي، فقال: لن تموت نفس حتى

تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خُذُوا ما حَلّ، ودعوا ما

حَرُم".

فغنى النفس يُعِين على هذا كله، وغنى المؤمن الكفاية، وكذلك كان

النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ اجعل رزق آل محمد قوتًا"، ولم يُرِدْ بهم إلا الذي هو

أفضل لهم، وقال: "ما قلّ، وكفى، خير مما كثُر، وألهى".

وقال أبو حازم: إذا كان ما يكفيك لا يغنيك، فليس في الدنيا شيء

يغنيك.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من فقر مسرف، وغنى مُطْغ.

وفي هذا دليل بَيِّن أن الغنى والفقر طرفان، وغايتان مذمومتان.

قال: وليس في قول الله تعالى ذكرُهُ حاكيًا عن موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] تفضيل الغنى على الفقر؛ لأن جميع

خلقه يفتقرون إلى رحمته، ولا غنى لهم عن رزقه، فمن أعطاه الله الكفاية، فقد

تمَّت له منه العناية، ومن آتاه الله من رزقه سعة، فواجب شكره عليه، وحَمْده.

كما يجب الصبر على من امتُحِن بالقلّة والفقر؛ لأن الفرائض، وحقوق المال،

ونوافل الخير تتوجه إلى ذي الغنى، ومؤنة ذلك ساقطة عن الفقير، والقيام بها

فضل عظيم، والصبر على الفقر، والرضا به ثواب جسيم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وقد قال الحكماء: خير الأمور أوساطها، فالزيادة الكثيرة على القوت،

والكفاية ذميمة، ولا تؤمَن فِتنتها، والتقصير عن الكفاف محنة وبليّة، لا يأمَن

صاحبها فِتنتها أيضًا، ولا سيما صاحب العيال، ورُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه

سئل عن دعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من جَهْد البلاء"، فقال: جهد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015