قال ابن بطال: ذكر بعضهم أن معنى قوله: "خير له من أن يمتلئ شعرًا"؛
يعني: الشعر الذي هُجِي به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
وقال أبو عبيد: والذي عندي في هذا الحديث غير هذا القول؛ لأن الذي
هُجي به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أَبُو كان شطر بيت لكان كفرًا، فكأنه إذا حُمل وجه الحديث على
امتلاء القلب منه أنه قد رُخِّص في القليل منه، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه من
الشعر، حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن، وعن ذِكر الله تعالى، فيكون الغالب
عليه، فإما إذا كان القرآن، والعلم الغالبين عليه، فليس جوفه ممتلئًا من الشعر.
وأخرج أبو عبيد التأويل المذكور من رواية مُجالد عن الشعبيّ مرسلًا،
فذكر الحديث، وقال في آخره- يعني: من الشعر الذي هُجي به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-:
وقد وقع لنا ذلك موصولًا من وجهين آخرين، فعند أبي يعلى من حديث جابر في
الحديث المذكور: "قيحًا، أو دمًا خير له من أن يمتلئ شعرًا هُجيت به"، وفي
سنده راو لا يُعرف، وأخرجه الطحاويّ، وابن عديّ من رواية ابن الكلبيّ، عن
أبي صالح، عن أبي هريرة مثل حديث الباب، قال: فقالت عائشة: لم يحفظ
إنما قال: من أن يمتلئ شعرًا هُجيت به، وابن الكلبيّ واهي الحديث، وأبو
صالح شيخه ما هو الذي يقال له السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح،
عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف، يقال له: باذان، فلم تثبت هذه الزيادة.
ويؤيد تأويل أبي عبيد ما أخرجه البغويّ في "معجم الصحابة"،
والحسن بن سفيان في "مسنده"، والطبراني في "الأوسط" من حديث مالك بن
عُمير السلميّ، أنه شَهِد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفتح وغيرها، وكان شاعرًا، فقال:
يا رسول الله أفتني في الشعر، فذكر الحديث، وزاد: قلت: يا رسول الله امسح
على رأسي، قال: فوضع يده على رأسي، فما قلت بيت شعر بعدُ.
وفي رواية الحسن بن سفيان بعد قوله: على رأسي، ثم أَمَرَّها على
كَبِدي، وبطني، وزاد البغويّ في روايته: "فإن رابك منه شيء فاشبب بامرأتك،
وامدح راحلتك"، فلو كان المراد الامتلاء من الشعر (?) لَمَا أَذِن له في شيء
منه، بل دلّت الزيادة الأخيرة على الإذن في المباح منه.