قال الجامع عفا الله عنه: هذ القول الثاني هو الحقّ، وحاصله أن شرع

من قبلنا شرع لنا، لكن بشرط أن تتوافَر فيه ثلاثة أمور:

[الأول]: أن يثبُت أنه شرع لمن قبلنا بطريق صحيح، وهو الكتاب والسنّة

الصحيحة، ولو كانت آحادًا، فإن ورد بطريق غير صحيح لم يكن شرعًا لنا بلا

خلاف.

[الثاني]: أن لا يَرِد في شرعنا ما يؤيّده ويقرّره، فإن وَرَدَ في شرعنا ما

يؤيّده كان شرعًا لنا بلا خلاف.

[الثالث]: أن لا يَرِد في شرعنا ما ينسخه ويُبطله، فإن ورد ذلك لم يكن

شرعًا لنا بلا خلاف، ومن المعلوم أن ذلك لا يكون في أصول الدين، وأمور

العقيدة؛ لأنه لا اختلاف بين الأنبياء في التوحيد.

والأدلّة لهذا المذهب كثيرة:

(منها): أن الله تعالى أنزل علينا هذا الكتاب العزيز لنعمل بكلّ ما دلّ

عليه من الأحكام، سواء كان شرعًا لمن قبلنا، أم لا.

(ومنها): أن الله عز وجل ما قصّ علينا أخبار الماضين إلا لنعتبر بها، فنجتنب

سبب هلاكهم، ونلتزم سبب نجاتهم.

والآيات الدّالّة على الاعتبار بأحوال الماضين كثيرة جدًّا، كقوله عز وجل:

{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (137)} [الصافات: 137، 138]،

وقوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)} [الحجر: 76]، وقوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 79].

(ومنها): قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية، فإن ذلك مما استُدِلّ به في شرعنا على وجوب القصاص.

(ومنها): أنه - صلى الله عليه وسلم - لَمّا قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصطّها إذا

ذَكرها"، قرأ قوله تعالى: (وأقم الصلاة للذِّكْرَى)، رواه مسلم، وهي مقولةٌ

لموسى عليه السلام، وهذا من أوضح الأدلّة لهذه المسألة، ووجه ذلك أنه لو لم يكن

شرع من قبلنا شرعًا لنا لَمَا استدلّ به - صلى الله عليه وسلم - على وجوب القضاء على الناسي،

والنائم، ولَمَا كان لتلاوة الآية عند ذلك فائدة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015