والحاصل أنه لم يعاتَبْ إنكارًا لِمَا فَعَل، بل جوابًا له، وإيضاحًا لحكمة شمول

الهلاك لجميع أهل تلك القرية، فضَرَب له المثل بذلك؛ أي: إذا اختلط من

يستحق الإهلاك بغيره، وتعيّن إهلاك الجميع طريقًا إلى إهلاك المستحقّ جاز

إهلاك الجميع، ولهذا نظائر، كتترّس الكفار بالمسلمين، وغير ذلك، والله

سبحانه أعلم.

وقال الكرمانيّ: النملُ غير مكلَّف، فكيف أُشيرَ في الحديث إلى أنه لو

أحرق نملة واحدةً جاز، مع أن القصاص إنما يكون بالمثل؛ لقوله تعالى:

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].

ثم أجاب بتجويز أن التحريق كان جائزًا عنده.

ثم قال: يَرِدُ على قولنا: كان جائزًا لو كان كذلك لَمَا ذُمّ عليه.

وأجاب بأنه قد يُذَمّ الرفيع القدر على خلاف الأَولى. انتهى.

قال الحافظ: والتعبير بالذمّ في هذا لا يليق بمقام النبيّ، فينبغي أن يُعَبّر

بالعتاب. انتهى (?).

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا النبيّ عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق

جائزة في شرعه، ولذلك إنَّما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النَّمل، لا

في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: "فهلّا نملة واحدة؟ ": أي: هلّا حرّقت

واحدةً! وهذا بخلاف شرعنا، فإنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن التعذيب بالنار، وقال:

"لا يعذِّب بالنار إلا الله"، وكذلك أيضًا كان قَتْل النمل مباحًا في شريعة ذلك

النبيّ، فإنَّ الله لم يعتُبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا: فقد خرَّج أبو داود

من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن قتل أربع من الدواب:

النَّملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضرّ،

ولا يقدر على دَفْعه إلا بالقتل.

قال: وظاهر هذا الحديث: أن هذا النبيّ إنَّما عاتبه الله تعالى حيث انتقم

لنفسه بإهلاك جَمْع آذاه واحد منه، وكان الأَولى به الصبر، والصفح، لكن وقع

للنبيّ: أن هذا النوع مؤذٍ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015