فيه بُعد يستبعده من له اطلاع في التاريخ، وكانت المدينة دار العلم، ومعدن
الشريعة، وإليها يهرع الناس في أمر دينهم.
[فإن قلت]: إذا كان الأمر كذلك كيف لم يغيّر أهلها هذا المنكر؟ .
[قلت]: لا يخلو زمان من ارتكاب المعاصي، وقد كان في وقت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن شرب الخمر، وسَرَق، وزنى، إلا أنه كان شاذّا نادراً، فلا
يحل لمسلم أن يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغيِّر المنكر، فكذلك أمرُ القُصّة بالمدينة كان
شاذّا، ولا يجوز أن يقال: إن أهلها جَهِلوا النهي عنها؛ لأن حديث لعن
الواصلة حديث مدنيّ معروف عندهم، مستفيض. انتهى كلام العينيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (?)،
وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وقول معاوية - رضي الله عنه -: "يا أهل المدينة" أين
علماؤكم؟ " هذا من معاوية - رضي الله عنه - علي جهة التذكير لأهل المدينة بما يعلمونه،
واستعانة على ما رام تغييره من ذلك، لا على جهة أن يُعْلِمهم بما لم يعلموا،
فإنَّهم أعلم الناس بأحاديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما في ذلك العصر. ويَحْتَمِل أن
يكون ذلك فيه؛ لأنَّ عوام أهل المدينة أول من أحدث الزور، كما قال في
الرواية الأخرى: "إنكم قد أحدثتم زِيَّ سَوْء"؛ يعني: الزور، فنادى أهل العلم
ليوافقوه على ما سمعه من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن ذلك، فينزجر من أحْدَث
ذلك من العوام. وقد فسَّر معاوية الزور المنهي عنه في هذا الحديث بالخِرَق
التي يُكْثِر النساء بها شعورهن بقوله: "ألا وهذا الزور"، وزاده قتادة وضوحاً.
و"الزور" في غير هذا الحديث: قول الباطل، والشهادة بالكذب. وأصل
التزوير: التمويه بما ليس بصحيح.
وهذا الحديث حجَّة واضحة على إبطال قول من قصر التحريم على وصل
الشعر، كما تقدَّم. وهذا يدلّ: على اعتبار أقوال أهل المدينة عندهم، وأنها
مرجع يُعتمد عليه في الأحكام. وهو من حجج مالك على أن إجماع أهل
المدينة حجَّة، وقد حققنا ذلك في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (?).
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ)؛ أي: ينهى النساء عن