(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم استعمال آنية الذهب
والفضّة:
(اعلم): أن أحاديث الباب تدلّ على تحريم الأكل والشرب في آنية
الذهب والفضة على كل مكلَّف، رجلاً كان، أو امرأةً، ولا يلتحق ذلك بالحُلي
للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شيء، قال القرطبيّ وغيره: في
الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويُلحق بهما
ما في معناهما مثل التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال
الجمهور، وأغربت طائفة شذّت، فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم
على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنه لم يقف على الزيادة
في الأكل.
قال في "الفتح": واختُلِف في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى
عَيْنهما، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة".
وقيل: لكونهما الأثمان، وقِيَم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لجاز
اتخاذ الآلات منهما، فيفضي إلى قلّتهما بأيدي الناس، فيُجحف بهم، ومَثَّله
الغزالئ بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو مُنعوا
التصرف لأخلّ ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حَبْس لهما
عن التصرف الذي ينتفع به الناس، وَيرِد على هذا جواز الحلي للنساء من
النقدين، ويمكن الانفصال عنه، وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية، وبه
صرّح أبو علي السنجيّ، وأبو محمد الجوينيّ.
وقيل: علة التحريم السَّرَف والخيلاء، أو كسر قلوب الفقراء، وَيرِدُ عليه
جواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس، وأكثر قيمةً من
الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شَذّ، وقد نَقَل ابن الصباغ في "الشامل"
الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعيّ، ومن بعده، لكن في زوائد العمرانيّ عن
صاحب الفروع نَقَل وجهين.
وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم، وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد
لفاعله، ومجرد التشبه لا يَصِل إلى ذلك، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنه لا حاجة إلى هذه التكلّفات الباردة،