وإنما شُرع الجهاد لتعلو كلمة الله على أرض الله تعالى، ويكون لها العزّ والمنعة، وليكسر شوكة الجبّارين الذين يستعبدون عباد الله بأحكامهم، وقوانينهم المنبثقة من آرائهم، ويأبون أن يقام حكم الله تعالى في أرضه، ويشيعون بقوّةِ حُكْمهم كلّ ظلم، ومنكر، وفساد.
ولكن طائفة من المنتمين إلى الإسلام المولَعين بأفكار الغرب المُغْرَمين بمبادئه ونظريّاته والمنهزمين دائمًا أمام اعتراضاته التي لا تنتهي إلى حدّ، بدل أن تفهم حقيقة الجهاد، وأن الكفّار لا يرضون منه أبدًا، جعلت تعتذر أمامهم بأعذار انهزاميّة سخيفة، وصارت تحرّف من أجلها النصوص، فتقول: إن الجهاد لم يُشرع إلا للدفاع عن الوطن الإسلاميّ ضدّ عدوّ هاجم عليه، ولا يجوز ابتداء القتال ضدّ دولة كافرة لا تهجم على دار الإسلام.
وإن هذا القول قول مبتدَع لا أصل له في الكتاب، والسُّنَّة، ولا عهد به في تاريخ الجهاد، ولا سند له في الفقه الإسلاميّ طوال أربعة عشر قرنًا، ولكنه قد انخدع به كثير من الناس في العصر الحاضر، والله تعالى المستعان (?).
(المسألة الرابعة): في بيان مراحل تشريع الجهاد:
(اعلم): أن الجهاد مرّت عليه مراحل منذ بداية الإسلام، ولم يصل إلى حكمه النهائي إلا بعد مروره على تلك المراحل:
(المرحلة الأولى): هي الصبر على أذى المشركين، مع الاستمرار في دعواهم إلى الدين الحقّ، ونهي النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم - عن القتال، وقد تكرّر بيان هذه المرحلة في القرآن الكريم مدّة إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر: 94]، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في هذه المدّة: "إني أُمرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا" الحديث (?)، أخرجه النسائيّ، والبيهقيّ، والحاكم في "المستدرك"، وقال: على شرط البخاريّ،