قال: "من حكم بين اثنين تراضيا به، لم يعدل بينهما، فهو ملعون" (?)، ولولا أن حكمه يلزمهما لَمَا لَحِقَه هذا الذمّ، ولأن عمر وأبيًّا تحاكما إلى زيد، وحاكم عمرُ أعرابيًّا إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكونوا قضاة.
[فإن قيل]: فعمر وعثمان كانا إمامين، فإذا ردّا الحكم إلى رجل صار قاضيًا.
[قلنا]: لم يُنقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة، وبهذا لا يصير قاضيًا، وما ذكروه يَبطُل بما إذا رضي بتصرف وكيله، فإنه يلزمه قبل المعرفة به.
إذا ثبت هذا، فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا يُنقَض به حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعيّ، وقال أبو حنيفة: للحاكم نقضه، إذا خالف رأيه؛ لأن هذا عقد في حق الحاكم، فمَلَك فسخه كالعقد الموقوف في حقه.
قال: ولنا أن هذا حكم صحيح لازم، فلم يجز فسخه؛ لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية، وما ذكروه غير صحيح، فإن حكمه لازم للخصمين، فكيف يكون موقوفًا؟ ولو كان كذلك لَمَلَك فسخه، وإن لم يخالف رأيه، ولا نسلّم الوقوف في العقود.
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان:
[أحدهما]: له ذلك؛ لأن الحكم لمّا لم يتم أشبه ما قبل الشروع.
[والثاني]: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به.