وبإخراج أهل الذِّمَّة من الكوفة إلى الحيرة، قال: وإنما خصَّ في الحديث جزيرة العرب؛ لأنه لم يكن يومئذ للإسلام ظهور إلا بها.
قال القرطبيّ: وتخصيص الحكم بجزيرة العرب هو قولُ المتقدمين، والسلف الماضين، فلا يُعْدَلُ عنه، ولم يُعَرِّج أبو حنيفة على هذا الحديث، فأجاز استيطان المشركين بالجزيرة، ومخالفة مثل هذا جريرة. انتهى قول القرطبيّ -رحمه الله-، وأجاد في قوله: "ومخالفة مثل هذا جريرة"، فإن مخالفة الحديث الصحيح، جريرة أي جريرة، لكن يُعتذر عن الإمام أبي حنيفة: بأنه لم يصل إليه هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ -رحمه الله-: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب": قال أبو عبيد: قال الأصمعيّ: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن اليمن إلى رِيف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جُدّة، وما والاها إلى أطراف الشام، وقال أبو عبيدة: هي ما بين حَفَر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فما بين رَمْل يَبْرين إلى مُنقَطع السماوة.
وقوله: "حَفَر" أبي موسى هو بفتح الحاء المهملة، وفتح الفاء أيضًا، قالوا: وسميت جزيرةً؛ لإحاطة البحار بها من نواحيها، وانقطاعها عن المياه العظيمة، وأصل الْجَزْر في اللغة القطع، وأضيفت إلى العرب؛ لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وديارهم التي هي أوطانهم، وأوطان أسلافهم.
وحَكَى الهرويّ عن مالك أن جزيرة العرب هي المدينة، والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن.
وأخذ بهذا الحديث مالك، والشافعيّ وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعيّ خَصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز، وهو عنده مكة والمدينة واليمامة، وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه.