وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم" يقتضي أن تبقى عليهم حال هجرتهم، وأحكامها، ويفيد أن استصحاب أحكامها كان واجبًا على من هاجر، فيحرم عليه الرجوع إلى وطنه، وترك المدينة إلى أن يموت بها، وإن كان قد ارتفع حكم وجوب أصلها عن لم يهاجر يوم الفتح، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح"، متّفقٌ عليه، وقال: "إن الهجرة قد مضت لأهلها"، متّفقٌ عليه؛ أي: مَن كان هاجر قبل الفتح صحَّت له هجرته، ولزمه البقاء عليها إلى الموت، ومن لم يكن هاجر سقط ذلك عنه، ومِن نَقْضِ الهجرة خاف المهاجرون، حيث تحرَّجوا من مُقامهم بمكة في حجة الوداع، وهذا هو الذي خاف منه سعد -رضي الله عنه-، فإن قضيته هذه كانت في حجَّة الوداع، وهذا هو الذي نَقِمَه الحجَّاجُ على ابن الأكوع لَمّا تَرَك المدينة، ولَزِمَ الرَّبَذَة، فقال: تَغَرَّبت يا ابن الأكوع؟ ! فأجابه بأن قال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ لي في البدو، وهذا هو الظاهر من جملة ما ذكرناه من هذه الأحاديث، وبه قال بعض أهل العلم، وهو الذي يدلُّ عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لكن البائسُ سعد ابن خولة" رثى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن توفي بمكة، وسيأتي الكلام عليه.
وقال آخرون: إن وجوب الهجرة، ووجوبَ استدامة حكمها قد ارتفع يوم الفتح، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنُصرته، ولِأخذ شريعته، ومشافهته، ولأن للكون معه اغتنامًا لبركته، ثم لمّا مات -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من أقام بالمدينة، وأكثرهم ارتحل عنها، ولمّا فُتِحَت الأمصار استوطنوها، وتركوا سكنى المدينة، فاستوطن الشامَ قومٌ منهم، واستوطن آخرون العراق، وآخرون مصر.
وتأوّل أهل هذا القول ما تقدَّم بان ذلك إنما كان منهم مخافةَ أن تنقص أجورُهُم في هجرتهم متى زالوا عن شيء من أحكامها، فدعا لهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بألا يُنْقِصَهم شيئًا من ذلك.
وللأولين أن ينفصلوا عن هذا، بأن يقولوا: إنما استوطنوا تلك الأمصار للجهاد، وفتح البلاد، وإظهار الدِّين، ونشر العلم، حتى أنفذوا في ذلك