وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: وقوله: "لا يتوارث أهل ملَّتين"، قال بظاهره مالك، فلا يرث اليهوديّ النصرانيَّ، ولا يرثان المجوسيَّ، وهكذا جميع أهل الملل؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، وقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وداود: إن الكفار كلهم أهل ملة واحد، وإنهم يتوارثون، محتجِّين بقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فوحَّد الْمِلَّة، وبقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6]، والخطاب بـ {لَكُمْ} للكفار كلهم مع توحيد {دِينِ}، وتأولوا قوله: "لا يتوارث أهل ملتين" على أن المراد به الإسلام والكفر، كما قال في الحديث الأول: "لا يرث المسلم الكافر"، ولا حجَّة في ذلك.
أمَّا الآية الأولى فلأن ملّتهم وإن كانت موحدة في اللفظ، فهي مكثرة في المعنى؛ لأنه قد أضافها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذتُ عن علماء المدينة عِلْمَهم -مثلًا علمهم-، وسمعتُ عليهم حديثهم؛ يعني: علومهم، وأحاديثهم.
وأمَّا الثانية: فلأن الذين نزلت الآية جوابًا لهم إنَّما هم مشركو قريش، قالوا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-: تَعَالَ نشترك في أمرنا وأمرك، تدين بديننا، وندين بدينك، فنستوي في الأخذ بالخير، فأنزلها الله تعالى مخاطبةً لهم. وهم صنفٌ واحدٌ من الكفار، وهم الوثنيون، وكيف لا يكون ما قاله مالك، وقد قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؟ فالعربُ تزعم أنها على شريعة إبراهيم، واليهود على شريعة موسى، والنَّصارى على شريعة عيسى، في ملل متعددة، وشرائع مختلفة. انتهى كلام القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ (?).
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما ذهب إليه مالك ومن قال بقوله: إن أهل ملّتين لا يتوارثان، هو الأرجح؛ عملًا بظاهر حديث: "لا يتوارث أهل ملّتين شتّى"، أخرجه أبو داود، واللفظ له، والترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ صحيح، وهو كما قال، وابن ماجه، وحمله على الإسلام، والكفر خلاف الظاهر، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.