[المائدة: 27] , وآكل الحرام المسترسل في الشبهات ليس بمتّقٍ على الإطلاق، وقد عضد ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس إن الله طيّبٌ، ولا يقبل إلا طيّبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين، بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] , وقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية [المؤمنون: 51] , ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث، أغبر، يقول: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنّى يُستجاب له"، رواه مسلم، والترمذيّ، ولَمّا شرب أبو بكر جرعة لبن من شبهة استقاءها، فأجهده ذلك حتى تقيّأها، فقيل له: أكل ذلك في شربة؟ فقال: والله لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلّ لحم نبت من سُحت فالنار أولى به" (?).
وعند هذا يعلم الواحد منا قدر المصيبة التي هو فيها، وعِظَم المحنة التي ابتُلي بها، إذ المكاسب في هذه الأوقات قد فسدت، وأنواع الحرام والشبهات قد عمّت، فلا يكاد أحد منّا اليوم يتوصّل إلى الحلال، ولا ينفكّ عن الشبهات، فإن الواحد منا، وإن اجتهد فيما يعلمه، فكيف يعمل فيمن يعامله؟ مع استرسال الناس في المحرّمات، والشبهات، وقلّة من يتّقي ذلك، من جميع الأصناف، والطبقات، مع ضرورة المخالطة، والاحتياج للمعاملة، وعلى هذا فالخلاص بعيدٌ، والأمر شديدٌ، ولولا النهي عن القنوط واليأس، لكان ذلك الأولى بأمثالنا من الناس، لكنّا إذا دفعنا عن أنفسنا أصول المحرّمات، واجتهدنا في ترك ما يمكننا من الشبهات، فعفو الله تعالى مأمولٌ، وكرمه مرجوّ، فلا ملجأ إلا هو، ولا مفزع إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا حول، ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (?)، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.