بحِمَى السلطان، وكما يَحتاط الراعي، ويتحرّز عن مقاربة الحمى؛ حَذَرًا عن أن تتخطّاه ماشيته، فيَتعرّض لسخط السلطان، ويستوجب تأديبه، ينبغي أن يتورعّ المكلّف عن الشبهات، ويتجنّب عن مقاربتها، كيلا يقع في المحارم، ويستحقّ به السخط العظيم، والعذاب الأليمِ، ولَمّا كان التورعّ، والتهتّك مما يتبع ميلان القلب إلى الصلاح والفجور، نبّه على ذلك بقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه"؛ ليُقبل المكلّف عليه، فيُصلحه، وَيمنعه عن الانهماك في الشهوات، والإسراع إلى تحصيل المشتهيات، حتى لا يتبادر إلى الشبهات، ولا يستعمل جوارحه في اقتراف المحرّمات. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله (?)، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا مَثَلٌ ضربه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمحارم الله تعالى، وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصّة بها، وتُحرَّجُ بالتوعد بالعقوبة على من قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يَبْعُد بماشيته من ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه، وإن أكثر الحذر؛ إذ قد تنفرد الفاذّة، وتشذّ الشاذّة، ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يَأْمَن فيها من وقوع الشاذة والفاذّة، وكذلك محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها على الطريقتين المتقدمتين. انتهى (?).
وقال في "الفتح": قوله: "كراعِ يرعى ... إلخ " جملة مستأنفة، وردت على سبيل التمثيل؛ للتنبيه بالشاهد على الغائب، والحمى: الْمَحْمِيّ، أُطلق المصدر على اسم المفعول، وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يَحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثّل لهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يَبْعُد عن ذلك الحمى؛ خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبُعْدُهُ أسلم له، ولو اشتدّ حَذَرُهُ، وغير الخائف المراقب