وبيانه بالمثال، وهو: أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ في مشهور مذهب مالك، فلا يجوز أن يستعمل في شيء من المائعات؛ لأنها تَنْجَس إلا الماء وحده، فإنه يدفع النجاسة عن نفسه؛ لأنه لا ينجس إلا إذا تغيَّر، هذا الذي ترجَّح عنده، ثم إنه اتقى الماء في خاصة نفسه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نقله القرطبيّ رحمه الله من أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ خلاف السنة الصحيحة الصريحة: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهُر" (?)، فلا يُلتَفت إليه، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: ونحو ذلك حُكي عن أبي حنيفة أو سفيان الثوريّ أنه قال: لَأَنْ أخرَّ من السَّماء أهون عليَّ من أن أفتي بتحريم قليل النبيذ، وما شربته قط، ولا أشربه، فقد أعملوا الراجح في الفتيا، وتورعوا عنه في أنفسهم، وقد قال بعض المحققين: من حكم الحكيم أن يوسع على المسلمين في الأحكام، ويضيق على نفسه؛ يعني به ذلك المعنى.
ومنشأ هذا الورع الالتفات إلى مكان اعتبار الشرع ذلك المرجوح، وهذا الالتفات ينشأ من القول: بأن المصيب واحد، وهو مشهور قول مالك، ومنه مثار القول في مذهبه بمراعاة الخلاف، كما بينَّاه في الأصول، غير أن تلك التجويزات المعتبرة -وإن كانت مرجوحة- فهي على مراتب في القرب والبعد، والقوة والضعف، وذلك بحسب الموجب لذلك الاعتبار، فمنها ما يوجب حزازة في قلب المتقي، ومنها ما لا يوجب ذلك، فمن لم يجد ذلك، فلا ينبغي له أن يتوقف؛ لأنه يلتحق ذلك بالقسم الأول عنده، ومن وجد ذلك توقف وتورَّع وإن أفتا المفتون بالرَّاجح؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس" (?)، وهنا يصدق قولهم (?):