القرطبيّ تبعًا لعياض: وقد وُجد هذا الذي قاله النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك حيث صارت
بعده - صلى الله عليه وسلم - معدن الخلافة، وموضعها، ومقصد الناس، وملجأهم، ومَعقلهم،
حتى تنافس الناس فيها، وتوسّعوا في خططها، وغَرَسوا، وسكنوا منها ما لم
يُسكن من قبلُ، وبنوا فيها، وشيّدوا حتى بلغت المساكن إهاب، كما سيأتي في
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الآتي -إن شاء الله تعالى-، وجُلبت إليها خيرات
الأرض كلّها، وصارت من أعمر البلاد فلما انتهت حالها كمالا وحُسنا،
انتقلت الخلافة عنها إلى الشام، ثم إلى العراق، وتغلبت عليها الأعراب،
وتعاورتها الفتن، فخاف أهلها، فارتحلوا عنها.
قال: وذكر الأخباريّون أنها خلت من أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي:
الطير والسباع، كما قال - صلى الله عليه وسلم -، ثم تراجع الناس إليها، وفي حال خلائها غَذَت
الكلاب على سواري المسجد، وعوافي الطير: هي الطالبة لما تأكل، يقال:
عفوته أعفوه: إذا طلبت معروفه، وغَذَّى الكلب يُغَذّي: إذا بال دفعة بعد دفعة.
انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (?).
(لَا يَغْشَاهَا) أي: لا يأتيها، يقال: غَشِيته أغشاه، من باب تَعِبَ: أتيته،
والاسم الْغِشْيان بالكسر (?). (إِلَّا الْعَوَافِي) "إلا" هنا ملغاة، و"العوافي" مرفوع
على الفاعليّة لـ "يغشاها", فالاستثناء مفرّغ، ثم فسّر العوافي بقوله: (يُرِيدُ)
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "العوافي" (عَوَافِيَ السبَاعِ وَالطَّيْرِ) قال النوويّ رحمه الله: أما
"العوافي" فقد فسّرها في الحديث بالسباع والطير، وهو صحيح في اللغة،
مأخوذ من عَفَوته: إذا أتيته تطلب معروفه، وأما معنى الحديث، فالظاهر
المختار أن هذا الترك للمدينة يكون في آخر الزمان، عند قيام الساعة،
وتوضّحه قصة الراعيين من مزينة، فإنهما يَخِرّان على وجوههما، حين تدركهما
الساعة، وهما آخر من يُحْشَر، كما ثبت في "صحيح البخاريّ"، فهذا هو
الظاهر المختار.
وقال القاضي عياض: هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى، قال:
وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فقد تُركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت