"صحيح البخاريّ" قول أبي الأسود: قَدِمت المدينة، وهم يموتون بها موتاً

ذريعاً، فهذا وقع بالمدينة، وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته

طاعوناً.

والحقّ أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي

ينشأ عن طعن الجنّ، فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن، فيَقتل، فهذا لم يدخل

المدينة قط، فلم يتضح جواب القرطبيّ.

وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:

"ولكن عافيتك أوسع لي"، فكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص

المدينة، ولوازم دعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لها بالصحة.

وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى

آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن

المدينة هذه الدهور الطويلة. قال الحافظ: هو كلام صحيح، ولكن ليس هو

جواباً عن الإشكال.

ومن الأجوبة أنه - صلى الله عليه وسلم - عوّضهم عن الطاعون بالحمى؛ لأن الطاعون يأتي

مرة بعد مرة، والحمى تتكرر في كل حين، فيتعادلان في الأجر، ويتم المراد

من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب.

قال الحافظ: ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه

أحمد من رواية أبي عسيب - بمهملتين، آخره موحدة، بوزن عظيم - رفعه:

"أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون

إلى الشام"، وهو أن الحكمة في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المدينة كان في قلة من

أصحابه عدداً ومدداً، وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة - رضي الله عنها -، ثم

خُيِّر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أمرين يحصل بكل منهم الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ

لقلّة الموت بها غالباً، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، واذن

له في القتال، كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تُضعف أجساد الذين

يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعابنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة،

فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ

من فاتته الشهادة بالطاعون، ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته

طور بواسطة نورين ميديا © 2015