(فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَكْوَى أَصْحَابِهِ) - رضي الله عنهم - (قَالَ: لا اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا)
بصيغة الأمر من التحبيب (الْمَدِينَةَ) منصوب على المفعوليّة (كَمَا حَبَّبْتَ) إلينا
(مَكَّة) وفي رواية البخاريّ: "كحبّنا مكة" (أَوْ أَشَدَّ) أي: من حب مكة، قال
الزرقانيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: فاستجاب الله دعاءه، فكانت أحبّ إليه من مكة، كما جزم به
بعضهم، وكان يُحَرِّك دابته إذا رأى المدينة من حبها. انتهى.
وقال القاري - رَحِمَهُ اللهُ -: "أو أشد"؛ أي: بل أكثر وأعظم، يعني أن "أو" هنا
بمعنى "بل"، ويؤيده أنه في رواية: "وأشد" بالواو، قال: ولا ينافي هذا ما
سبق أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمكة: "إنكّ أحب البلاد إليّ، وإنكِ أحب أرض الله إلى الله"،
وفي رواية: "لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله، وأكرمها على الله"، فإن
المراد به المبالغة، أو لأنه لَمَّا أوجب الله على المهاجرين مجاورة المدينة،
وترك التوطن والسكون بمكة، طلب من الله أن يزيد محبة المدينة في قلوب
أصحابه - رضي الله عنهم -؛ لئلا يميلوا بأدنى الميل غَرَضًا به؛ إذ المراد بالمحبة الزائدة
الملاءمة لملاذّ النفس، ونفي مشاقّها، لا المحبة المرتبة على كثرة المثوبة،
فالحيثية مختلفة، ويؤيد ما قرّرناه قوله: (وَصَحِّحْهَا)؛ أي: المدينة من الوباء،
قال القاري: أي: اجعل هواءها، وماءها صحيحًا (وَبَارِكْ لنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَما)
تقدّم الكلام على هذا، قال الزرقانيّ: فاستجاب الله تعالى دعاءه، فطيَّب
هواءها، وترابها، ومساكنها، والعيش بها.
وقال ابن بطال وغيره: من أقام بها يَجِد من ترابها وحيطانها رائحة طيبةً،
لا تكاد توجد في غيرها، قال بعضهم: وقد تكرر دعاؤه بتحبيبها والبركة في
ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب المزيد.
(وَحَوِّلْ) وفي رواية البخاريّ: "وانقل" (حُمَّاهَا) أي: وبائها، وشدّتها،
وكثرتها (إِلَى الْجُحْفَةِ) - بضم الجيم، وسكون الحاء -: أحد المواقيت
المشهورة، وقد تقدم ذكرها في حديث المواقيت.
قال الخطابيّ وغيره: كان ساكنو الجحفة في ذلك الوقت اليهود، وهم
أعداء الإسلام والمسلمين، ولذا توجه دعاؤه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم.
وقال عياض: فيه معجزة له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الجحفة من يومئذ وَبِيئة وَخْمَةٌ، لا
يشرب أحدٌ من مائها إلَّا حُمّ؛ أي: من الغرباء الداخلين عليها.