لَمّا قَدِم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وُعِك أبو بكر، وبلال، فكان أبو بكر إذا
أخذته الْحُمّى يقول [من الرجز]:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وكان بلال إذا أُقْلِع عنه الحمى يرفع عَقِيرته، يقول [من الطويل]:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِي إَذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
وقال: اللهم الْعَنْ شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خَلَف، كما
أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم حبب إلينا
المدينة، كحبنا مكة، أو أشدّ، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا، وصححها
لنا، وانقُلْ حُمّاها إلى الجحفة"، قالت: وقَدِمنا المدينةَ، وهي أوبأ أرض الله،
قالت: فكان بُطحانُ يجري نَجْلًا، تعني ماءً آجِنًا.
وفي رواية له في "المناقب": قالت: لَمّا قَدِمَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وُعِك
أبو بكر، وبلالٌ، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجد؟ ويا بلال
كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول ... الحديث.
قال ابن عبد البرّ - رَحِمَهُ اللهُ -: إِذْخِرٌ، وجَلِيلٌ نبتان من الكلأ طيب الرائحة،
يكونان بمكة، وأوديتها، لا يكادان يوجدان في غيرها، وقيل: الجليل: نبت
ضعيف صفراء يُحشى بها خُصاص البيوت وغيرها.
و"مَجِنّة" بفتح الميم، وكسر الجيم، وتشديد النون: موضع بأعلى مكة
على أميال، كان يقام للعرب بها سوق، وبعضهم يكسر ميمها، والفتح أكثر،
وهي زائدة.
و"شامةٌ، وطَفِيلٌ" جبلان على نحو ثلاثين ميلًا من مكة في جهة اليمن،
وقيل: جبلان مُشْرِفان على مَجِنّة، على بريدين من مكة، وقيل: عينان عندها،
قال الزرقانيّ: وجُمع باحتمال أن المعينين بقرب الجبلين، أو فيهما.
وحاصل ما قال بلال: "أنه كان يذكر مكة، وصحة هوائها، وعذوبة
مائها، ولطافة جبالها، ونباتها، ونفحة رياح نباتها الذي بمنزلة بناتها وأبنائها".
وعند ابن إسحاق: فذكرت ذلك، فقلت: يا رسول الله إنهم ليهذون، وما
يعقلون، من شدة الحمى.