قال ابن بطال وغيره: قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (?)} خرج على لفظ الخطاب؛ لأن الله فَطَر الناس على حب المال والولد، فلهم رغبة في الاستكثار من ذلك، ومِن لازم ذلك الغفلة عن القيام بما أُمروا به، حتى يفجأهم الموت.
ووجه ظنّهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال، والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك، ولا بدّ لكل أحد منه، فلما نزلت هذه السورة، وتضمّنت معنى ذلك مع الزيادة عليه، عَلِموا أن الأول من كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
وقد شرحه بعضهم على أنه كان قرآنًا، ونسخت تلاوته لَمّا نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (?) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)}، فاستمرت تلاوتها، فكانت ناسخة لتلاوة ذلك، وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ؛ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء.
ويؤيد ما ردّه ما أخرجه الترمذيّ، من طريق زِرّ بن حُبيش، عن أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن"، فقرأ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]، وقرأ فيها: "إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ومن يعمل فيه خيرًا فلن يُكْفَره"، وقرأ عليه: "لو أنّ لابن آدم واديًا من مال لابتغى إليه ثانيًا، ولو أن له ثانيًا لابتغى إليه ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" (?)، وسنده جيّد.
والجمع بينه وبين حديث أنس عن أُبَيّ المذكور آنفًا أنه يَحْتَمِل أن يكون أُبَيّ لَمّا قرأ عليه النبيّ {لَمْ يَكُنِ}، وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- احْتَمَلَ عنده أن يكون بقية السورة، واحتَمَلَ أن يكون من كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتهيأ له أن يَستَفْصِل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (?)}، فلم ينتف الاحتمال.