يقال: معناه إن بني آدم كلهم مجبولون على حب المال، والسعي في طلبه، وأنه لا يَشْبَعُ منه إلا من عصمه الله تعالى، ووفّقه لإزالة هذه الجبِلّة عن نفسه، وقليلٌ ما هم، فوضع "ويتوب الله على من تاب" موضعه؛ إشعارًا بأن هذه الجبِلَّة المركوزة فيه مذمومةٌ، جاريةٌ مَجْرَى الذنب، وأن إزالتها ممكنةٌ، ولكن بتوفيق الله وتسديده، ونحوه قوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] أضاف الشحّ إلى النفس؛ دلالة على أنها غَرِيزة فيها، وبَيَّن إزالته بقوله: {يُوقَ}، ورَتَّب عليه قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

قال: وهاهنا نُكْتةٌ دقيقةٌ، فإنه ذكر ابن آدم تلويحًا إلى أنه مخلوق من التراب، ومن طبيعته القبض واليبس، فيمكن إزالته بأن يُمْطِر الله عليه السحائب من غمائم توفيقه، فَيُثْمِرُ حينئذ الْخِلال الزكيّة، والخصال المرضيّة، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} الآية [الأعراف: 58] فمن لم يتداركه التوفيق، وتركَهُ وحِرْصَهُ لم يزدد إلا حرصًا، وتهالكًا على جمع المال.

وموقع قوله: "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" موقع التذييل والتقرير للكلام السابق، ولذلك أعاد ذكر ابن آدم، ونِيطَ به حكمٌ أشملُ وأعمُّ، كأنه قيل: ولا يَشْبَع مَن خُلِق من التراب إلا بالتراب، وموقع "ويتوب الله على من تاب" موقع الرجوع؛ يعني أن ذلك لعسيرٌ صَعْبٌ، ولكن يسير على من يسّره الله تعالى عليه، فحقيق أن لا يكون هذا من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القُوَى والقَدَر. انتهى كلام الطيبيّ رحمهُ اللهُ (?).

وقال في "الفتح" -بعد ذكر كلام الطيبيّ المذكور-: ويَحْتَمِل أن تكون الحكمة في ذكر التراب دون غيره، أن المرء لا ينقضي طمعه حتى يموت، فإذا مات كان من شأنه أن يُدْفَن، فإذا دُفِن صُبّ عليه التراب، فملأ جوفه وفاه وعينيه، ولم يبق منه موضع يحتاج إلى تراب غيره، وأما النسبة إلى الفم،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015