التعارض بين هذا المعنى، وبين قوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" على تأويل الخطّابيّ، فأما على ما أوّلنا به الغنى، فيرتفع التعارض. وبيانه أن الغِنَى يُعنى به في الحديث حصول ما تُدفع به الحاجة الضروريّة، كالأكل عند الجوع المشوّش، الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدّق، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره بذلك أدّى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقّه أولى على كلّ حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضلَ؛ لأجل ما يتحمّل من مضض الفقر، وشدّة مشقّته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (?).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي وجّه به القرطبيّ رحمه الله هذا الحديث حسنٌ جدًّا، حيث تجتمع به الأدلّة، ويندفع به التعارض بينها.
وحاصله أن المراد بالغنى في قوله: "ما كان عن ظهر غنى" الغنى الذي يقوم معه على حقوق نفسه، وحقوق العيال، من دفع الحاجات الضروريّة التي لا بدّ للإنسان، كالأكل من جوع، واللبس من عري، ونحوهما، فما كان بعد ذلك من الصدقة، فهو أفضل؛ للنصوص التي وردت في مدح الإيثار، وإن كان معه نوع احتياج، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التصدّق مع الحاجة إلى المال:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": ومن تصدّق، وهو محتاجٌ، أو أهله محتاجٌ، أو عليه دين، فالدين أحقّ أن يُقضَى من الصدقة، والعتق، والهبة، وهو ردّ عليه، ليس له أن يُتلِفَ أموال الناس، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يُريد إتلافها أتلفه الله"، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصةٌ، كفعل أبي بكر -رضي الله عنه- حين تصدّق بماله. وكذلك آثر الأنصار المهاجرين. ونهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة. وقال كعب بن مالك -رضي الله عنه-: قلت: يا