مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغَى قَيْدُ التَّعْيِينِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمِ لَفْظٍ بِلَا لَفْظٍ بِنَصٍّ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَاقِعَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ، وَاحْتُمِلَ كَوْنُ إجَازَةِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِيهَا فِي أَكْثَرِهِ وَاحْتُمِلَ كَوْنُهَا لِلتَّجْوِيزِ فِي النَّهَارِ مُطْلَقًا فِي الْوَاجِبِ فَقُلْنَا بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ خُصُوصًا، وَمَعَنَا نَصُّ السُّنَنِ بِمَنْعِهَا مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا وَعَضَّدَهُ الْمُعَيَّنُ، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ دُونَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّ قِرَانَ النِّيَّةِ فِيهِمَا شَرْطٌ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَالْمُتَقَدِّمَةِ بِلَا فَاصِلٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ فَبِالْوُجُودِ فِي آخِرِهِ يُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي كُلِّهِ بِخِلَافِهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَرْكَانٌ فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهَا، وَإِلَّا خَلَتْ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الرُّكْنُ عِبَادَةً
وَاعْتَبَرَ الْمُصَنِّفُ النِّيَّةَ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَكْثَرُ الْيَوْمِ مَنْوِيًّا؛ وَلِهَذَا عَبَّرَ فِي الْوَافِي بِنِيَّةِ أَكْثَرِهِ، وَهِيَ أَوْلَى لِمَا أَنَّ النَّهَارَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى زَمَنٍ أَوَّلُهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ هُوَ فِي الشَّرْعِ وَالْيَوْمِ سَوَاءٌ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ جَعَلَ أَوَّلَهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ لُغَةً وَفِقْهًا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهِيَ أَوْلَى مِنْ عِبَارَةِ الْقُدُورِيِّ وَمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ سَاعَةَ الزَّوَالِ نِصْفُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعِبَارَةِ لَا فِي الْحُكْمِ، وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ: الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَوَى الصَّوْمَ قَالَ زُفَرُ لَا يَكُونُ صَائِمًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ صَائِمًا، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا أَفْطَرَ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: إذَا أَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَنَوَى التَّطَوُّعَ كَانَ صَائِمًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ
وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ فَأَفَادَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا فَصَارَ كَالْقَضَاءِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، وَالْمُنَاسِبُ لَهُمَا التَّخْفِيفُ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُهُمَا، وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ الْكَبِيرِ: فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُجْزِئُهُمَا اهـ.
وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ مَدْفُوعَةٌ بِصَرِيحِ الْمَنْقُولِ مِنْ أَنَّ عِنْدَنَا لَا فَرْقَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالنِّهَايَةِ والولوالجية وَغَيْرِهَا
(قَوْلُهُ وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَنِيَّةِ النَّفْلِ) أَيْ صَحَّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَمَا مَعَهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ أَمَّا فِي رَمَضَانَ فَلِأَنَّ الشَّارِعَ عَيَّنَهُ لِفَرْضِ الصَّوْمِ فَانْتَفَى شَرْعِيَّةُ غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ فِيهِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فَصَحَّ بِنِيَّةِ صَوْمٍ مُبَايِنٍ لَهُ كَالنَّفْلِ وَالْكَفَّارَاتِ بِنَاءً عَلَى لَغْوِ الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا فَيَبْقَى الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ، وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ يَصِحُّ صَوْمُهُ كَالْأَخَصِّ نَحْوَ زَيْدٌ يُصَابُ بِالْأَعَمِّ كَيَا إنْسَانُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ نَفْيَ شَرْعِيَّةِ غَيْرِهِ إنَّمَا تُوجِبُ صِحَّتَهُ لَوْ نَوَاهُ وَنَفْيَ صِحَّةِ مَا نَوَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: وَهِيَ أَوْلَى إلَخْ) قَالَ فِي النَّهْرِ الظَّاهِرُ أَنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَوْلَى لِإِفَادَتِهَا مَبْدَأَ النِّيَّةِ وَغَايَتَهَا مَعَ ظُهُورِ الْمُرَادِ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا فِي أَصْلِهِ؛ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نِيَّةَ أَكْثَرِهِ كَافِيَةٌ كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُهُ بَلْ نِيَّةٌ وَاقِعَةٌ فِي أَكْثَرِهِ، وَكَانَ هَذَا هُوَ السِّرَّ فِي التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا ذَاكَ الْإِطْلَاقُ فَمَمْنُوعٌ فَقَدْ نَقَلَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ عَنْ الدِّيوَانِ أَنَّهُ لُغَةً أَيْضًا مِنْ طُلُوعِ الصُّبْحِ الصَّادِقِ، وَلَوْ سَلِمَ لَا يَضُرُّنَا؛ إذْ أَلْفَاظُ أَهْلِ كُلِّ فَنٍّ إنَّمَا تُصْرَفُ إلَى مَا تَعَارَفُوهُ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ عَلِمْت أَنَّ تَقْيِيدَ النَّهَارِ بِالشَّرْعِيِّ كَمَا فِي النُّقَايَةِ مِمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ (قَوْلُهُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعِبَارَةِ لَا فِي الْحُكْمِ) هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْهِدَايَةِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ مُقْتَضَى مَا فِي الْقُدُورِيِّ الْجَوَازُ قُبَيْلَ الزَّوَالِ، وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا مَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْمُحِيطِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يَعْنِي قَوْلَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَوْلَهُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فِيمَا إذَا نَوَى عِنْدَ قُرْبِ الزَّوَالِ وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَاللَّفْظُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ اللَّفْظُ الثَّانِي اهـ. بِحُرُوفِهِ.
(تَنْبِيهٌ) : اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ قُطْرٍ نِصْفُ نَهَارِهِ قَبْلَ زَوَالِهِ بِقَدْرِ نِصْفِ حِصَّةِ فَجْرِهِ فَمَتَى كَانَ الْبَاقِي لِلزَّوَالِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا النِّصْفِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا فَفِي مِصْرَ وَالشَّامِ تَصِحُّ النِّيَّةُ قَبْلَ الزَّوَالِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ دَرَجَةً لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ حِصَّةِ الْفَجْرِ لَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَرَجَةً فِي مِصْرَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَنِصْفٍ فِي الشَّامِّ فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي إلَى الزَّوَالِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ هَذِهِ الْحِصَّةِ، وَلَوْ بِنِصْفِ دَرَجَةٍ صَحَّ الصَّوْمُ كَذَا حَرَّرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا إبْرَاهِيمُ السَّائِحَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -