ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ سُئِلَ قَارِئُ الْهِدَايَةِ عَنْ الدَّعْوَى بِقَطْعِ النِّزَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَأَجَابَ لَا يُجْبَرُ الْمُدَّعِي عَلَى الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. اهـ.
وَلَا يُعَارِضُهُ مَا نَقَلُوهُ فِي الْفَتَاوَى مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى بِدَفْعِ التَّعَرُّضِ، وَهِيَ مَسْمُوعَةٌ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إنَّمَا يَدَّعِي أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ عَلَيْهِ يَدَّعِيهِ، وَإِلَّا يُشْهِدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ، وَفِي الثَّانِي إنَّمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي كَذَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُطَالَبُ بِدَفْعِ التَّعَرُّضِ فَافْهَمْ. اهـ.
وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى لِيُعْلَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ أَغْفَلَهُ الشَّارِحُونَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَأَقُولُ: فِي دَعْوَى الْخَارِجِ مِلْكًا مُطْلَقًا فِي عَيْنٍ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرٍ أَوْ مُسْتَعِيرٍ أَوْ مُرْتَهِنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَالِكِ وَذِي الْيَدِ إلَّا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِجَارَةِ فَالْمَالِكُ وَحْدَهُ يَكُونُ خَصْمًا وَتُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُزَارِعِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ أَوْ كَانَ الزَّرْعُ نَابِتًا، وَإِلَّا لَا، وَفِي دَعْوَى الْغَصْبِ عَلَيْهِ لَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَالِكِ، وَفِي الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا بُدَّ فِي دَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ وَالشُّفْعَةِ مِنْ حَضْرَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي فَاسِدًا بَعْدَ الْقَبْضِ خَصْمٌ لِمَنْ يَدَّعِي الْمِلْكَ فِيهِ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ الْخَصْمُ هُوَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْكُلِّ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ قَضَاءٌ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْمَيِّتِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْجَامِعِ بِكَوْنِ الْكُلِّ فِي يَدِهِ، وَإِنْ الْبَعْضُ فِي يَدِهِ فَبِقَدْرِهِ، وَالْمُوصَى لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْوِصَايَةِ أَوْ الْوَكَالَةِ إلَّا إذَا كَانَ مُوصًى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا وَارِثَ فَهُوَ كَالْوَارِثِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ فِي يَدِهِ مَالُ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ وَلَا وَصِيٍّ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى غَرِيمِ الْمَيِّتِ مَدْيُونًا أَوْ دَائِنًا وَالْخَصْمُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ خَمْسَةٌ: الْوَارِثُ وَالْوَصِيُّ، وَالْمُوصَى لَهُ وَالْغَرِيمُ لِلْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى الْمَيِّتِ وَقْفٌ عَلَى صَغِيرٍ لَهُ وَصِيٌّ وَلِرَجُلٍ فِيهِ دَعْوَى يَدَّعِيهِ عَلَى مُتَوَلِّي الْوَقْفِ لَا عَلَى الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَلِي الْقَبْضَ وَلَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الصَّبِيِّ عِنْدَ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَتَكْفِي حَضْرَةُ وَصِيِّهِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا بَاشَرَهُ الْوَصِيُّ أَوْ لَا وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ عِنْدَ دَعْوَى الْمَوْلَى أَرْشَهُ، وَمَهْرَهَا وَلَوْ ادَّعَى عَلَى صَبِيٍّ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ اسْتِهْلَاكًا أَوْ غَصْبًا، وَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الصَّبِيِّ مَعَ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، وَإِلَّا نَصَبَ الْقَاضِي لَهُ وَصِيًّا وَتُشْتَرَطُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَشْهُورَةَ مِنْ الْبَزَّازِيَّةِ لَيْسَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَبَنَى عَلَيْهِ فَتْوَاهُ بَلْ عَلَى مَا قَيَّدَهُ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَدَاعِيَيْنِ يَطْلُبُ الْمُحَاكَمَةَ عِنْدَ قَاضِي مَحَلَّتِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ فِي نُسْخَتِهِ إطْلَاقًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْعِمَادِيَّةِ وَالْخَانِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ الَّذِي وَلَّاهُ خَصَّهُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ أَوْ بِتِلْكَ الْمَحَلَّةِ وَلِهَذَا قَالَ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ اخْتَصَمَ غَرِيبَانِ عِنْدَ قَاضِي بَلْدَةٍ صَحَّ قَضَاؤُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَقُولُ: وَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يُفَوَّضُ لَهُمْ الْحُكْمُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَنْ هُوَ فِي بَلَدِهِمْ أَوْ قَرْيَتِهِمْ الَّتِي تَوَلَّوْا الْقَضَاءَ بِهَا.
وَلِهَذَا قَالَ فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ مُقَيَّدَةً بِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَأَرَادَ الْعَسْكَرِيُّ أَنْ يُخَاصِمَهُ إلَى قَاضِي الْعَسْكَرِ فَهُوَ عَلَى هَذَا وَلَا وِلَايَةَ لِقَاضِي الْعَسْكَرِ عَلَى غَيْرِ الْجُنْدِيِّ. اهـ.
فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوِلَايَةُ فَالسُّلْطَانُ لَمَّا وَلَّى قَاضِيًا بِبَلْدَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ مَخْصُوصَةٍ خَصَّهُ بِأَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَاضِيَ مِصْرَ لَمَّا وُلِّيَ لَمْ يَخُصَّ حُكْمُهُ بِأَهْلِ مِصْرَ بَلْ بِمَنْ هُوَ فِيهَا مِنْ مِصْرِيٍّ وَشَامِيٍّ وَحَلَبِيٍّ وَغَيْرِهِمْ فَيَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِمُوَافَقَتِهِ لِتَعْرِيفِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُ يَعْنِي الْعَلَّامَةَ زَيْنًا لَا وَجْهَ لَهُ حَمَوِيٌّ عَنْ الْمَقْدِسِيَّ كَذَا فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ أَقُولُ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَصْحِيحِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَكَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ قَاضِيَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَحَلَّةٍ، وَقَدْ أُمِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْحُكْمِ عَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعِمَادِيِّ وَلَا وِلَايَةَ لِقَاضِي الْعَسْكَرِ عَلَى غَيْرِ الْجُنْدِيِّ أَمَّا إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَأْذُونًا بِالْحُكْمِ عَلَى أَيٍّ مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ فَيَنْبَغِي تَصْحِيحُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي لَهُ الْخُصُومَةُ فَيَطْلُبُهَا عِنْدَ أَيِّ قَاضٍ أَرَادَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ قُضَاةَ مِصْرَ وَالشَّامِ إذْ إذْنُهُمْ عَامٌّ.
وَهَذَا كَلَامٌ مُتَّجَهٌ وَنُقِلَ مِثْلُهُ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ عَنْ خَطِّ صَاحِبِ التَّنْوِيرِ عَلَى هَامِشِ الْبَزَّازِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ كُلُّ قَاضٍ عَلَى مَحَلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ أَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ حَنَفِيٌّ وَشَافِعِيٌّ، وَمَالِكِيٌّ وَحَنْبَلِيٌّ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي إجَابَةِ الْمُدَّعِي لِمَا أَنَّهُ صَاحِبُ الْحَقِّ. اهـ.
قُلْت وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي الْمِنَحِ وَلَكِنْ رَدَّهُ الرَّمْلِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَيْهَا وَبَالَغَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ بِالْهَذَيَانِ أَشْبَهَ وَلَمْ يَأْتِ لِرَدِّهِ بِوَجْهٍ يُقَوِّيهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْمُرَادُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَاصِلِ فَقَالَ مَا قَالَ وَذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا السَّائِحَانِيُّ بَعْدَ كَلَامٍ قَالَ فِي قَضَاءِ الْبَزَّازِيَّةِ فُوِّضَ قَضَاءُ نَاحِيَةٍ إلَى رَجُلَيْنِ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَضَاءَ وَلَوْ قَلَّدَ رَجُلَيْنِ عَلَى أَنْ يَنْفَرِدَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْقَضَاءِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ السُّلْطَانِ وَيَمْلِكُ التَّفَرُّدَ. اهـ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَوْ لِقَاضِيَيْنِ فَأَكْثَرَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَحَلَّةٍ فَتَفَرُّدُ الْقَاضِي صَحِيحٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ عَلَى السَّوَاءِ فَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ التَّفَرُّدَ فَلَا فَائِدَةَ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِهِمْ، وَإِنْ أُمِرَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالتَّفَرُّدِ جَازَ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ مُجْتَمِعِينَ فَمَا فَهِمَهُ صَاحِبُ التَّنْوِيرِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. اهـ.
وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَ قَوْلِهِ جَازَ وَالْعِبْرَةُ لِلْمُدَّعِي، وَقَدْ اتَّضَحَ الْمَرَامُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. (قَوْلُهُ: أَوْ دَائِنًا) فَائِدَتُهُ إثْبَاتُ الْمُخَاصَمَةِ تَأَمَّلْ